فلسطين 2024: تصحيح التاريخ أو العودة إلى ما قبل التاريخ! (2)

مدة القراءة 9 د


“حسناً، لقد أسقطنا الاتحاد السوفيتي بحصار مزدوج، بين الديمقراطيات المسيحية غرباً، والصحوات الإسلامية شرقاً. الآن كيف نسقط الإسلام السياسي؟”.

سؤال صار موضوع البحث الأوّل في واشنطن بين أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات. إلى أن وجدوا الحلّ – الكارثة. الذي لا يزال يتفاعل أزماتٍ ويتوالد حروباً، حتى غزة أخيراً.

*************

أجرت واشنطن دراسة سريعة، كما كلّ دراساتها، للمقارنة بين القطب السوفيتي والكوكب الإسلامي. فخلصت بتبسيط، هو نهجٌ ثابت في كلّ خلاصاتها، إلى التالي: الأوّل كان متموضعاً في الجغرافيا. وهو ما سهّل حصاره. الثاني منتشر حتى التفشّي. وبالتالي ليس الحلّ هنا بالحصار. بل بالتفجير من الداخل حتى التفتيت والانهيار.
فيما مجامع التفكير الأميركي منكبّة على البحث عن النقطة – المقتل لهذا التفجير المطلوب، وفق سيناريو فيلم هوليوود الخيالي “هرماجدعون”، تنطّح صدّام حسين وقدّم لهم، صباح 2 آب 1990، الجواب والحلّ والموقع المطلوب. اجتاح الرجل الكويت، غداة طيّ حربه مع نظام الخميني. فحبكت الفكرة في واشنطن: وجدناها. فلنجعل من العراق حرباً دائمة. إنّه المكمن المثالي لتفجير عالم الإسلام السياسي كلّه. ففيه كلّ التقاطعات – التناقضات اللازمة والضرورية لجعل أيّ رصاصة، تتفاعل وتتفجّر وفق سلاسل ردود فعل لا تنتهي:

بعد احتلال العراق صرنا أمام شرق أوسط جديد جذريّاً. حيث الإسلام السياسي الشيعي ممثّلاً بملالي طهران، يتقدّم في الجغرافيا الطبيعية والسياسية والاقتصادية، برعاية أميركية مباشرة

في العراق أربعة تقاطعات – تناقضات، مثالية نموذجية لتحقيق الهدف المطلوب:
– أوّلاً: التقاطع السنّي الشيعي، أحد أهمّ مكامن التفجير المطلوب.
– ثانياً: التقاطع العربي الإيراني. بكلّ مخزونه التاريخي والراهن.
– ثالثاً: تقاطع الجغرافيا السياسية، بين بلاد الرافدين المتجذّرة في أرض الجزيرة العربية من وجهة أحد طرفَي الصراع، وبين النافذة الجغرافيّة الوحيدة المفتوحة لفارس، التي سجنتها الطبيعة بين سلسلتَي جبال، ولم تترك لها منفذاً إلّا صوب شطّ العرب. وهو ما يفاقم الصراع المطلوب.
– رابعاً، تقاطع النفط والثروات التي لا بدّ أن تستدرج كلّ المنطقة إلى ذاك الأتون المستعر…
وهكذا صار. حتى إنّه قيل يومها إنّ صدّاماً لم يكن صاحب براءة الاختراع. بل اكتفى هو ببراءة التكريتي في العنف والغزو. بينما استدرجته إبريل غلاسبي إلى المتاهة التي لم تنتهِ.
في جزء أوّل من السيناريو الجهنّمي، توقّف بوش الأب عند حدود الكويت. ولبث ينتظر نتائج الانفجار المطلوب. لكنّ الأمر ظلّ محدوداً. بعدها جاء بن لادن وتطوّع للوظيفة نفسها في 11 أيلول. يوم كان في البيت الأبيض رجل يجيد اللعبة باحتراف، اسمه ديك تشيني. ويمسك بالقرار كاملاً، في ظلّ صورة مهضومة لرئيس دمية، ابن رئيس الجولة الأولى. فأصدر تشيني الأمر فوراً: الهجوم على العراق. اضطرّ إلى الانتظار سنتين، فيما يقفل ملفّ الملا عمر في كابول. ثمّ ذهب إلى بغداد محتلّاً منتصراً مفجّراً لبلد ومنطقة وعالم.

شرق أوسط جديد
بعد احتلال العراق صرنا أمام شرق أوسط جديد جذريّاً. حيث الإسلام السياسي الشيعي ممثّلاً بملالي طهران، يتقدّم في الجغرافيا الطبيعية والسياسية والاقتصادية، برعاية أميركية مباشرة. فيما الاسلام السياسي السنّي، مستهدف من واشنطن مباشرة أيضاً. على خلفيّة أنّه المسؤول عن 11 أيلول، الذريعة المستحبّة والمستجدّة للحرب الكونية الجديدة.

ارتاحت إيران أكثر. فمدّت هلالها من الخليج إلى المتوسّط

حتى ارتاح البيت الأبيض إلى استراتيجيته لقرن مقبل. وبدأ ينظّر لمذهب الانزياح شرقاً صوب آسيا. لا مشكلة بعد اليوم في الشرق الأوسط. ولا قضايا مركزية ولا مصيرية. بل مجرّد قبائل من قرون غابرة تتقاتل تحت نظر الإمبراطورية وضبطها. فيما العالم الجديد يبدأ الآن من المحيط الهادئ وما حوله.
في لحظة واحدة خارقة لهذا الاتجاه، وصل إلى البيت الأبيض حالمٌ من عالم آخر غريب كلّياً عن واشنطن. باراك، ابن حسين أوباما، تلميذ هارفرد، الكابت الكامن لرفضه أو حتى حقده على جذوره وتاريخها.
فكّر لوهلة بتغيير المخطّط. أو ربّما تسريعه. قال: فلنجرّب النموذج الإخواني التركي الإردوغانيّ، في ثنائيّته الجذّابة، بين ديمقراطية إسلامية خاصة، وليبرالية اقتصادية على طريقتنا. إذا نجحت نختصر الوقت والثمن. وإذا فشلت يدفع الإسلاميون وحدهم الأثمان وخسارة الأزمان. فأطلق ما كان “الربيع العربي”. قيل إنّه وقّع على أمر تنفيذي لانطلاقه في آب 2010. بعد أشهر احترق جسد البوعزيزي في تونس. قبل أن يحترق جيل كامل حالم بالحرّية والحداثة، وتحترق فرصة لا بدّ أن تتكرّر.
حتى إنّ أوباما لم يكتفِ بأمر التأسيس. بل ساعد على التمهيد للتنفيذ. فصودف أنّه تمكّن من تصفية بن لادن في الأوّل من أيار 2011، فيما الربيع الإخواني يحصد العواصم من تونس إلى القاهرة فطرابلس الغرب.
لكنّ الهلالين اللذين فتحهما أوباما، لم يلبثا أن أُقفلا في دمشق. ففي عاصمة الأمويين تحوّل الربيع الإخواني مذبحة بلا نهاية. فاستنفرت إسرائيل وقرعت جرس إنذارها الوجودي في مثلّث واشنطن المقرِّر، بين البيت الأبيض والخارجية والكونغرس. أوصلت رسالة واضحة: فليذهب أوباما وليجرّب اختراعاته على “الحمض النووي الإسلاموي” بعيداً عن حدودنا. هنا الفوضى ممنوعة. أكانت خلّاقة أو هدّامة. اتركوا بشّاراً حاكماً ورتّبوا أمور عالمكم بمقاربات أخرى.
التزم أوباما فوراً. لحس إنذاره الكيمياوي. ودعا صديقَيه الروسي والإيراني لحماية حدود إسرائيل الشمالية، من فوضى ربيعه المتحوّل عواصف بلون الدم.
ارتاحت إيران أكثر. فمدّت هلالها من الخليج إلى المتوسّط.
فيما واشنطن متجاهلة متعامية مستخفّة حتى الازدراء.

سوء فهم الغرب
أصلاً، وبين هلالين مستقطَعين هنا، لم يفهم الغرب مرّة واحدة حقيقة الإسلام السياسي وعمقه البنيوي. ولم يدرك مرّة جوهرية عامل العنف التأسيسي له. ظلّ يتعامل معه كأنّه مجرّد ظاهرة سوسيولوجية أخرى، من ظواهر التعدّد الاجتماعي البشري الكثيرة حول العالم. مثل المسألة الإيرلندية أو الكاتالونية أو الباسكية أو سواها من نزاعات إثنية، يمكن إدارتها إلى ما لا نهاية، بتقنيّات “أعطوهم ما يخشون خسارته لاحقاً”، ونظريّات اللايف كوتشينغ.
لم يفهم الغرب مرّة، لا بل يرفض أن يفهم، ماذا يعني أن تتمنّى والدة من أتباع الإسلام السياسي الخمينيّ، موت أولادها كلّهم في المعركة. خلافاً لقاعدة إسلامية ثابتة بأنّ البنين زينة الحياة الدنيا لا الآخرة.
ولم يسمع الغرب، لا بل ويرفض أن يسمع، مفردات قسَمٍ يردّده المشيّعون لمن يسقط في معركة الإسلام السياسي الخمينيّ:
“قسماً قسماً قسماً، سنغطّي وجه الأرض دماً، حتى ينتصر الإسلام”.
لم يقُل: سنغطّي الأرض علماً ولا خيراً ولا محبّة ولا نموّاً ولا ازدهاراً مثلاً. بل دماً لا غير.
هذا ما لم يفهمه الغرب عموماً وواشنطن خصوصاً ولن يفعلا. وسيظلّان يحاولان بالقاعدة الشهيرة: التجربة والخطأ!
لنقفل الهلالين ههنا، ولنعد إلى حيث تركنا أوباما: خرج الرجل من الرئاسة مخلّفاً غلياناً أميركياً داخلياً وقنابل موقوتة في المنطقة.
وكما يفترض أن يحصل بطبيعة الفعل وعكسه، جاء ردّ الفعل الأميركي الداخلي، على وصول أوّل رئيس أسمر، انتخاب كاوبوي أصليّ أصيل، من بني ترامب. فتولّى تفجير كلّ العبوات التي خلّفتها التجارب الأوباميّة.
نقل سفارة بلاده إلى أورشليم القدس. قتل قاسم سليماني و”مهندسه” العراقي. ترك آرامكو تُقصف بنار إيرانية بلا ردّ. استفزّ شرقاً كاملاً وغرباً حليفاً، وهو غارق بين زوجة عارضة سابقة، وصهر استعراضيّ دائم…
حتى صار العالم شبيهاً بما ارتكبه حول الكونغرس لحظة خسارته الانتخابات.
وسط هذا الجنون، بدا أنّ السعودية راحت تبحث عن رؤية مختلفة. بين الجرح اليمنيّ المفتوح، وتحدّيات متراكمة في الداخل والجوار والمنطقة والعالم، ذهب محمد بن سلمان إلى محاولة رسم مسار مغاير بالكامل، لتاريخ المنطقة منذ 45 عاماً على الأقلّ.
بدأ بنقل الصراع مع نظام ورثة الخميني، من السباق على التطرّف، إلى سباق نحو الحداثة.
فكان أوّل إزعاج عميق لملالي طهران. بعدها ذهب إلى الاتفاق معهم. وبرعاية من؟ بكين، أي المستورد الأكبر لصادرات إيران النفطية. وبالتالي المتحكّم الأوّل بوارداتها من العملة النادرة جدّاً وسط شبه مجاعة طهرانيّة.
حتى كانت الخطوة الثالثة من بن سلمان، صوب فلسطين بالذات. محور الصراع وعنوانه المحقّ، وذريعته الدائمة لكثيرين. فبدأ التفاوض بهدوء وعمق، حول تسوية كبرى: تطبيع مع الكيان، مقابل حلّ الدولتين. أي تطبيق محدّث لمعادلة المبادرة العربية للسلام المعلنة من بيروت سنة 2002.
وبدا أنّ للخطوة حظوظاً جديّة في التقدّم واستكشاف احتمالات النجاح.
ففهمت طهران أنّها الضربة القاضية لمشروع نفوذها في المنطقة، ولمشروعية ثورتها الأبدية فيها. فكان التخطيط لعملية 7 أكتوبر.
بضربة واحدة، تعيد الصراع إلى دينيته، حيث لا حلّ ولا تسوية. وتخطف راية فلسطين مجدداً، لا لحظة تخلي العرب عنها، بل قبل تمكنهم منتحقيق حلّ عادل لقضيتها. وتعطي مجسات إيران في كل المنطقة، شرعية جديدة للنضال، بعدما تحولت في الأعوام الاخيرة أعباء سلطوية متسلطة على مجتمعاتها ودولها وشعوبها…

إقرأ أيضاً: بين تايلور سويفت ويحيى السنوار (1)

إلى أين من هنا عشية مطلع العام 2024؟
إما إلى حروب لا تنتهي، بالواسطة والأدوات والبدائل، ودائمًا بدماء فلسطينية وعربية حصّراً. فينتصر منطق نتنياهو في الكيان، ونفوذ طهران في المنطقة. وإما إلى سقوط نتنياهو وانتصار فلسطين. لكن فلسطين الفلسطينية الوطنية العربية والإنسانية.
ما الذي يحدّد الحسم بين الاحتمالين؟
صمود غزّة أولاً. وعقلنة حماس ثانياً. واعتراف سلطة رام الله بضرورة التغيير والتبديل ثالثاً. وتسليم الاثنين، السلطة والحركة معاً، بأنّ فلسطين هي الهدف والقضية. لا السلطة ولا أسطرة أشخاصها. وضغط الرأي العام الدولي على الجميع رابععاً. ورضوخ واشنطن وتل أبيب أخيراً، لحقيقة أنّ فلسطين قضية لا تموت.
في عودة على بداية البحث من مقال الجزء الاول أمس، بعد أحداث 11 ايلول عنون فريد زكريا عاموده الشهير: “نهاية نهاية التاريخ”. في ردٍ منه على مقولة فوكوياما. وفي تنبؤ بأنْ يؤدّي سقوط برجي مانهاتن، إلى سقوط الأحادية القطبية لأميركا.
بعد هجوم 7 أكتوبر سيكتب، إما عن بداية التاريخ الصحيح، بانتصار فلسطين.
وإما عن عودةٍ إلى ما قبل التاريخ، بانتصار دوغماتيات العنف والتوحش والقتل، ضد فلسطين، أو بذريعتها!

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@

مواضيع ذات صلة

فلسطين 2024: المتاهة الجديدة للفلسطينيين..

خانة السنوات الشداد في روزنامة الفلسطينيين طافحة تتدفّق خارج حدود الموازين، ونصيبهم في أعوام الخير شحيح نادر، تحجبه عقود طويلة من احتلال بغيض نغّص حياتهم…

2023: موسم الهجرة الفرنسية من إفريقيا

يشبه المأزق الفرنسي في إفريقيا اليوم، المشكلة التي واجهتها المملكة المتحدة من قبل في دول الكومنولث، مع شيوع السردية المشكّكة في مستقبلها. فهل تشكّك فرنسا…

أوكرانيا بين الحظّ العاثر واللعنات الثلاث

لم تسِر سفن الحرب الأوكرانية في العام المنصرم كما يشتهي فولوديمير زيلينسكي. الهجوم المضادّ الذي شنّته كييف ضدّ القوات الروسية في الدونباس لم يحقّق أيّاً…

عام الحديد والنار

أطلقنا في “أساس” على العام 2023 اسم “الحديد والنار”. هو عام يختصر كل تاريخنا في هذه المنطقة وحكاية كل الاجيال التي ما عرفت عاماً من…