لم أكن أعي أن هناك دموعاً تكتب إلا حين ماتت جيزيل خوري. كانت جيزيل ابنة الحب، وطفلة الاحتمالات، وحين التقت بسميرها، انفجرت الحياة ينابيع تتدفّق، وصرنا جميعاً أبناء الحب. لكنني، وأنا أكتب الآن بالدموع، لم أعد أعرف لون الحبر أو طعمه.
حبري صار دمعاً ودمعي صار دماً. وعندما يختلط الحبر بالدم وتصبح الكلمات مجموعةً من الالتباسات لا يعود بإمكاننا التفريق بينها، ندخل في وهم الكتابة التي تضيع معانيها.
سوف أخبركم هذه الحكاية: حصل هذا في أوائل الثمانينيات، حين كنت أنا رئيساً لتحرير ملحق النهار، وكان سمير صحافيّاً جديداً عائداً من باريس. كانت تجمعني به صداقة عميقة وروح من الأخوّة والمحبة، فأمسكته من يده وقلت له: “تعال لأعرّفك على أجمل فتاة في بيروت!”.
لست متأكداً من صحة هذه الحكاية، فقد أكون قد قلت له، أو قد أكون قد قلت لها: “تعالي لأعرّفك على أجمل شاب في بيروت!”. ومنذ تلك اللحظة التقى حبيبان في واحدة من أجمل حكايات الحب التي أعرفها. كان حبّاً يتجاوز كلّ أشكال الحب ويتشكّل كنغمين لعصفورين لا مكان لهما إلا في المتخيّل الشعري. واستمرت تلك العلاقة طويلاً لأنّها لم تكن حبّاً فقط، ولكنها كانت ما يتجاوز الحب إلى التناغم والجمال والسحر. كان هذان الشابان الجميلان يسحران بيروت، وليس صدفة أن يكون نتاج هذا السحر كتاب “تاريخ بيروت” لسمير قصير، وبرنامج “حوار العمر” في تاريخ بيروت.
هذا هو جيل بيروت الذي صنع مدينة لا تشبه المدن ولكنها أجمل من كل المدن. هذا الجمال كان لا بد له أن يصير مأسويّاً لفرط جماله، قمة المأساة تلتقي بقمة البحث الروحي عن المعاني
صنع سمير حكاية كاملة عن مدينة تولد وتموت ثم تولد من جديد، وفي “حوار العمر” صنعت جيزيل تاريخاً شفويّاً من تاريخ هذه المدينة الرائعة التي يحاولون اليوم قتلها.
تاريخان صنعا حلماً ما لبث أن تطوّر إلى حلم للحرية والمساواة والديمقراطية.
هذا هو جيل بيروت الذي صنع مدينة لا تشبه المدن ولكنها أجمل من كل المدن. هذا الجمال كان لا بد له أن يصير مأساويّاً لفرط جماله، فقمة المأساة تلتقي بقمة البحث الروحي عن المعاني. قيل ويقال وسيقال إنّ بيروت مدينة حطّمت نفسها بنفسها، ولكنّ بيروت لم تحطّم نفسها، بل حطّمت أشباحاً والقوى التي حاولت اغتيالها. نعود إلى حيث كنّا، أين كنّا؟ كنّا نعالج حكاية حب فإذا بنا نحبّ الحكاية، فالحكاية هي التي صنعتنا ونحن من صنعها. نعود إليها كي نشهد بأمّ أعيننا تلك المأساة الرهيبة التي أخذت سمير قصير إلى موته المبكّر. اغتيل الرجل وهو يصارع من أجل الحياة ويكتب سيرة الحياة. أمّا المرأة التي أحبّته وأحبها فبقيت صامدة إلى أن انكسر الصمود. ماذا تفعل امرأة عاشقة بحبّها الذي طمرته الأيام بالدم و التراب؟ ماذا تستطيع أن تفعل كي تبقي شعلة الحياة مضاءةً في عينيها؟
الحياة لم تنطفئ يا صديقتي، فكما قال الناصريّ: “لم تمت الصبيّة لكنها نائمة”، فأنت يا صديقتي نائمة على عشب الحياة وعلى احتمالات الممكن وعلى الأمل بأننا حتّى إذا متنا لن نموت.