جردة بالرابحين والخاسرين: من غزّة إلى الرياض وأميركا…

مدة القراءة 9 د


ما زال الوقت مبكراً جداً لفرز المنتصرين عن الخاسرين، في حرب يرجَّح أن لا يكون في نهايتها منتصرٌ أكيد، ولا مهزومٌ تماماً. لكنّ كثيرين بدأوا يتحسّسون رقابهم، ويتخوّفون من أن يجرفهم نهر الجثث السياسية الذي سينفجر.

“حماس” تريد كرسي محمود عباس؟
ربّما كان أسرعهم رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، الذي أصدر بياناً يعلن أنّ “سياسات حماس وأفعالها لا تمثّل الشعب الفلسطيني”، قبل أن يسحب تصريحه ويعدّله ليصير على الشكل الآتي: “سياسات منظمة التحرير الفلسطينية وبرامجها وقراراتها هي التي تمثّل الشعب الفلسطيني بصفتها الممثّل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وليس سياسات أيّ تنظيم آخر”.
كان ذلك إنذاراً مبكراً من أبي مازن، لمعرفته المسبقة أنّ “حماس” سترغب في تقريش عمليّتها التاريخية في مركز القرار الوطني الفلسطيني. هو يعرف أنّ الحزب، بعد حرب تموز 2006، لم يوجّه ناسه صوب القدس، بل صوب السراي الحكومي، اعتصاماً واعتراضاً، وصولاً إلى المناوشات في 2007 واجتياح بيروت والجبل في 7 أيّار 2008.
كأنّه يرى في المرآة صورة رئيس حكومة لبنان في 2006، فؤاد السنيورة، ويرى في الأسابيع والأشهر المقبلة رغبة حمساوية في الهجوم على “السراي” في الضفّة الغربية. كأنّه يعرف أنّ حركة حماس تريد “السلطة” و”القرار” الفلسطيني أوّلاً، ثمناً للإنتصار على إسرائيل.
صحّ هذا الترجيح أو لم يصحّ، فالأكيد أنّ إشارته المبكرة انطلقت من مكتب الرئيس الفلسطيني، وتصريحه، وتعديله، وما بين سطوره وما في كواليسه، من “هاجس” حول “التمثيل الفلسطيني”، بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأوّل 2023).

وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وقفا وقفة عزّ تاريخية، رافضَين تهجير أهل غزّة إلى خارجها، على الرغم من الضغوط الغربية الشديدة

الحزب: حرس طهران الجمهوري؟
حتى الآن إيران لا تريد الحرب بل تخشاها.
فهي “انتصرت” بالمعنى “المقاوِم”. أخذت الرأي العامّ العربي إلى حيث تريد. وضعت أساساً لمصالحة المسلمين السُنَّة بعد 12 عاماً من الخلاف  السنّي – الشيعي والحرب الإيرانية على حواضر المشرق العربي ومدنه. وضعت “التطبيع” وراء المنطقة. أعادت طرح القضية الفلسطينية باعتبارها “مركز التاريخ” في منطقة الشرق الأوسط. ووجّهت صفعة لإسرائيل ردّاً على كلّ الاعتداءات الإسرائيلية في الداخل الإيراني، من اغتيالات لخبراء نوويين ومن سرقة الأرشيف النووي ومن تفجيراتٍ متنقّلة في مراكز أمنيّة ومعلوماتية وعسكرية، وردّاً على كلّ القصف الذي طاول الحركات التابعة لإيران في سوريا.
الحزب في هذا السياق ليس معنيّاً بـ”الحرب”. يكفيه أن “يناوش” و”يناور” على الحدود اللبنانية الإسرائيلية. هذه ليست حرباً، بل هي معارك متنقّلة تبدأ ظهراً وتنتهي بعد الظهر. و”التعادل” الإيجابي هو عنوانها. قتيلٌ بِقتيل. وجريحٌ بِجريح. وقصفٌ بِقصف. هي “تحمية” استعداداً للأسوأ، أو لحفظ ماء الوجه إذا كان هناك من تسوية.
جاء وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان وقال كلاماً محدّداً: “إذا لم ندافع عن غزّة اليوم، فعلينا أن ندافع (غداً) عن مدننا”. ونُقل عن الأمين العامّ للحزب أنّه قال له: “إذا لم نتّخذ إجراءً فوريّاً، فسنضطرّ إلى القتال مع القوات الصهيونية في بيروت غداً”. وبالتالي فإنّ الحزب في وضعية “دفاعية”. ويريد القتال، إذا قاتل، “دفاعاً عن النفس”. وبالتالي فإنّ “الهجوم” إمّا يكون “استباقياً”، إذا تيقّن الحزب وإيران من “نهاية حماس”، أو دفاعياً إذا تيقّنا من هزيمة غزّة برّياً.
سرت “رواية” في السنوات الأخيرة في صالونات بيروت السياسية، بأنّ “سلاح الحزب سيصدأ في المستودعات”، وأنّ حرب تموز “كانت الأخيرة”. لكنّ الواضح أنّ إيران لم تستثمر عشرات مليارات الدولارات، منذ 44 عاماً، ولم تدرّب وتدعم وتُطوِّر وتتعب، لتصدأ أسلحتها في المخازن. هذه أسلحة جاءت لتطلق النار. و”الحربُ أوّلُها كلام”.
يبقى أنّ عبد اللهيان كان واضحاً: “إذا لم ندافع عن غزّة اليوم، فعلينا أن ندافع (غداً) عن مدننا”. وهذه مهمّة الحزب: حماية النظام الإيراني، وليس أطرافه في غزّة أو غيرها. في هذه اللحظة يفكّر أهل طهران في أنفسهم. والحزب دوره حماية النظام، وأن “يدافع عن مدنه”، وذلك “استباقياً”. ففي لعبة الورق، لا يُلعب “أصّ الكوبّا” أوّلاً. وكذلك في لعبة العروش.

الحزب ليس معنيّاً بـ”الحرب”. يكفيه أن “يناوش” و”يناور” على الحدود اللبنانية الإسرائيلية. هذه ليست حرباً، بل هي معارك متنقّلة تبدأ ظهراً وتنتهي بعد الظهر

قلعة الغرب… تنهار؟
ماذا عن الغرب؟ وما هي إسرائيل أصلاً؟
من “هبّة الغرب” دفاعاً عن إسرائيل، بالبوارج الأميركية، وجنود النخبة الآتين في الطريق، والرئيس “الملك” جو بايدن الذي سيجول بنفسه لحماية “قلعته”، ومن السفن والطائرات العسكرية البريطانية، وخيول الريح الأوروبية، ومن تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فارس أوروبا المغوار، بأنّ “كلّ الدول الأوروبية معرّضة لخطر عودة الإرهاب الإسلامي”… نتيقّن من أنّ إسرائيل ليست سوى “قلعة غربية متقدّمة” في رقعة شطرنج المنطقة.

ومهمّة القلاع المتقدّمة تاريخياً هي:
– صدّ الهجمات والغزوات، وحماية “الهيبة”.
– حماية المصالح الاقتصادية والماليّة.
– حماية منظومة القيم السياسية والاجتماعية.
فكيف ضربت “7 أكتوبر” هذه القلعة في مهمّاتها الثلاث:
– الإمبراطوريات القديمة كانت إذا ضعُفت، سهُل على حركات التمرّد أن تهاجم حامياتها وقلاعها في الأطراف. و”حماس” ضربت “هيبة” الغرب وتكنولوجيا تفوّقه والجيش الذي يمثّله وكان “لا يُقهَر”، ويحمي مصالحه.
– المصالح التي تحميها هذه القلعة باتت مهدّدة، من المضائق المائية، إلى البلاد النفطية، إلى حركة الملاحة والتجارة من الهند إلى الخليج وصولاً إلى أوروبا.
– المجتمع الذي يتشارك مع الغرب “منظومة القيم”، انهزم نفسياً ومعنوياً. ومنظومة القيم نفسها “تخلخلت”، من اتفاقات أبراهام التي باتت في وضعٍ حرجٍ، إلى مسار التطبيع الذي تراجع جدّيّاً. وهذه قيم “التعاون” و”الحوار مع الآخر” و”التصالح”، كلّها انهارت في لحظة تيقّن أهل المنطقة من أنّ هذا الغرب، على الرغم من ادّعائه الديمقراطية، لا يرى آلاف القتلى العرب، بل يهمّه فقط أسيرٌ أميركي هنا أو أوروبي هناك، أكثر من عشرات آلاف الجرحى العرب المهدّدين بالموت بسبب حصار المستشفيات… وصولاً إلى فكرة “الحلف مع الغرب” وجذورها، بما هو (أي الغرب) بات واضحاً أنّه معادٍ لأهل المنطقة. فنراه يغطّي المجازر بحقّ أخوتنا الفلسطينيين، ويعجز عن حماية بلادنا من هجمات الفرس علينا.
بين قوسين، لا بأس لدى الغرب إذا ارتكب جيش هذه القلعة فظائع ومجازر. كلّ جيش يحتاج إلى عقيدة. لا مانع أن تكون “أسطورية”. فكيف سترسل الجنود إلى الموت من دون أسطورة دينية أو “هيكل سليمان” هنا وحكاية مذهبية هناك. الأهمّ أنّ هذا الجيش هو جدار حماية للغرب. لهذا هبّوا لنجدته. لا يأتي الأميركيون والبريطانيون والفرنسيون، بسياسيّيهم وبوارجهم وطائراتهم لأنّهم يريدون الدفاع عن “حائط المبكى” أو لأنّهم يتشاركون مع إيتمار بن غفير عقيدته المتطرّفة. هم هنا اليوم ليدافعوا “عن مدنهم”، تماماً مثل عبد اللهيان. فصواريخ إيران تصل إلى أوروبا، وطائراتها المسيّرة قصفت عاصمة أوروبية هي أوكرانيا قبل أشهر فقط، في جيش الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
هذه القلعه مهدّدة اليوم. لهذا جاءت حاملات الطائرات لتواجه فرقة من ألف رجل فلسطيني شبه عزّل، إلا من الحقّ، وبعض الطائرات الشراعية البدائية، والصواريخ المحلية الصنع، والأسلحة الخفيفة والمتوسّطة الموجودة في كلّ منزل أميركي أو لبناني.

تقف “الدول الوطنية” اليوم مع العنف الحياتي، لكن بمواجهة العنف الأصولي، بشكل حاسم، وفي حرب مع أيّ عنف سيحاول الهجوم على “السلطة”، إن كانت الفلسطينية، أو أيّ “سلطة” عربية أخرى

السيسي وبن سلمان: مواقف تاريخيّة.. متى الانقلاب؟
يبقى أنّ وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وقفا وقفة عزّ تاريخية، رافضَين تهجير أهل غزّة إلى خارجها، على الرغم من الضغوط الغربية الشديدة، وعلى الرغم من إغراء مصر الغارقة بالديون، بعشرات مليارات الدولارات وبشطب ديونها.
مصر هذه أقفلت المعابر في وجه النازحين، والمملكة العربية السعودية طالبت رسمياً بوقف إطلاق النار ورفع الحصار عن غزّة والدفع بعملية السلام التي تؤمّن حق الفلسطينيين في دولتهم.
وها هي مصر تجمع أكثر من 30 دولة في قمّة حول غزّة يوم السبت، عنوانها رفض التهجير، وإدخال المساعدات، وطرح حلّ جذري هو حلّ الدولتين.
“الدولة الوطنية” صمدت أمام الهجمة الغربية، واستوعبت الهجمة الحمساوية (ومن خلفها الدعم الإيراني). مصر والسعودية هما نواة “العروبة” الحديثة، المتمايزة عن دول التطبيع من جهة، وتُعتبران السدّ المنيع أمام الإسلام السياسي، وعلى ما يبدو أمام أطماع الغرب وعدم توازنه في القضية الفلسطينية من جهة ثانية.

هذه النواة استدركت مخطّطاً كبيراً. فانتصار “حماس” هو انتصار لثلاثة أنواع    من العنف:
– العنف الحياتي، من “ناقمين حياتياً”، كما سمّاهم الكاتب جهاد الزين في جريدة “النهار” قبل أيّام، في مقالة بعنوان “ملاحظات من منطقة تحت الصفر”.
– العنف الأصولي، الآتي من الإسلام الجهادي. وشرعية “حماس” وعمليّتها في 7 أكتوبر اختلط علينا في مناصرتها هل نحن نناصر شرعيّتها الفلسطينية، أو شرعيّتها الأصولية، أو شرعيّتها “المُمانِعة”.
– والعنف الثوري، أي عنف السعي إلى السلطة، الذي مارسته “حماس” حين اقتطعت غزّة وفعلت ما فعلت في عام 2007، ومارسه “شقيقها” و”زميلها” الحزب في بيروت حين انتزع تعديلاتٍ شفهية و”عرفية” على اتفاق الطائف في اتفاق الدوحة بعد 7 أيّار 2008.
لنحاول تعريف كلّ عنف:
– العنف الحياتي مبرَّر، بحسب الكاتب الزين، بسبب الحصار والسجن الكبير الذي شيّدته إسرائيل وحبست أهل غزّة فيه بلا ماء ولا كهرباء ولا غذاء ولا كرامة إنسانية.
– لكنّ العنف الأصولي الديني سبق أن اختبرناه، من العراق وسوريا إلى كلّ الدول العربية، بما فيه العنف تحت إدارة “الإخوان المسلمين” خلال حكمهم مصر قبل الرئيس السيسي وعنف “داعش” وقبلها “القاعدة” من تفجيرات أوروبا إلى 11 أيلول 2001.

إقرأ أيضاً: نكسة إسرائيل: درس أخلاقي للغرب واليهود

– العنف الذي يجنح إلى انتزاع السلطة، وهو سيحاول الاستفادة من “نشوة” الانتصار الفلسطيني، وانتصار “حماس” التي تختزن في داخلها أنواع العنف الثلاثة.
تقف “الدول الوطنية” اليوم مع العنف الحياتي، لكن بمواجهة العنف الأصولي، بشكل حاسم، وفي حرب مع أيّ عنف سيحاول الهجوم على “السلطة”، إن كانت الفلسطينية، أو أيّ “سلطة” عربية أخرى.
هذه جردة أوّلية بالخسائر والأرباح. حين تسكت المدافع وهدير الطائرات، سيتحسّس كثيرون رقابهم ومسدّساتهم. تماماً كما حصل في 2006 بعد حرب تموز، حين طالبت إيران بالسلطة في بيروت، وتماماً كما سيحصل في الأسابيع والأشهر المقبلة.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: mdbarakat@

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…