كنت على قلق وأنا أهمّ بالاتصال بأحد أصدقائي في مدينة غزّة، الواقعة تحت قصف إسرائيلي مدمّر منذ السابع من تشرين الأول الحالي، يوم باغتت المقاومة الفلسطينية جبروت جيش إسرائيل وأذلّته بضربات متتالية. سمعت عبر الهاتف هتافات جنازة تعبر من أمام بيته في حيّ الرمال وهي تحمل جثامين ضحايا جدد، لكنّ صوته جاء قوياً ثابتاً فتبدّد معه قلقي وتوتّري.
راح صديقي، رجل الأعمال، يتحدّث عن سواه من أهل غزّة الذين يعانون ما قال عنه إنّه “جحيم” وسمّى بالاسم أصدقاء ومعارف ومساكن وبنايات يعرف كيف كدّ أصحابها لتشييدها، قتلتهم وأطاحتها مقاتلات إسرائيل الهجومية خلال الأيام الأخيرة.
لم تتغيّر نبرة صوته، وهو الذي ناهز السبعين وشهد على هجمات شديدة أخرى شنّتها إسرائيل على قطاع غزّة خلال الثماني عشرة سنة الماضية، فيما يختلط رماد وركام وحطام آثار ضرباتها الماثلة للعيان مع بقايا ما تتركه الضربات الحالية.
لجأ ولده وأحفاده إلى مركز إيواء في أحد المستشفيات التي ما زالت تتوافر فيها الكهرباء والماء، وسط توقّعات باختفاء هذه الخدمات الإنسانية الأساسية جرّاء الحصار المطبق الذي فرضته إسرائيل على القطاع منذ الساعات الأولى لهجوم المقاومة الفلسطينية. ويعني استمرار الحصار انقطاع كامل للكهرباء والماء في القطاع، ناهيك عن اختفاء وشيك للسلع الغذائية وتلك الضرورية للعيش الآدمي.
ظلّ صديقي وزوجته مقيمَين في بيتهما وسط حيّ الرمال الذي تحدّثت أخبار غزّة عن أنّ القصف الإسرائيلي سوّى غالب مساكنه بالأرض. ويقول إنّه ينتقل مع كلّ إنذار بهجوم جديد إلى منزل ابنته أو أيّ مكان آمن آخر، لكنّه ما يلبث أن يعود إلى مسكنه ثانية.
احتار المؤرّخون في أصل تسمية غزّة، ومختلف التفسيرات التي قدّموها كانت تتّفق جميعها على معنى واحد مشترك، وهو أنّها لا تشبه سواها
لماذا سُميّت غزّة؟
لم يخطر في ذهنه طوال هذه السنوات الصعبة أن ينتقل إلى بيته الثاني في مصر حيث الأقارب والأصدقاء أيضاً، وظلّ مقيماً في غزّة مسقط رأسه الشاهدة على أحداث مختلفة على مرّ العصور. ومنذ أن أسسّ الكنعانيون المدينة في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، احتلّها الكثير من الغزاة كالفراعنة والإغريق والرومان والبيزنطيين والعثمانيين والإنكليز، وآخرهم إسرائيل.
احتار المؤرّخون في أصل تسمية غزّة، ومختلف التفسيرات التي قدّموها كانت تتّفق جميعها على معنى واحد مشترك، وهو أنّها لا تشبه سواها.
تشير المراجع التاريخية إلى أنّ المؤرّخين، كعادتهم بالنسبة إلى كثير من المدن القديمة، اختلفوا في سبب تسميتها بغزّة، فهناك من يقول إنّها مشتقّة من المَنَعَة والقوّة، وهناك من يقول إنّ معناها “الثروة”، وآخرون يرون أنّها تعني “المُميّزة” أو “المُختصّة” بصفات مهمّة تميّزها عن غيرها من المدن. أمّا ياقوت الحموي فيحسم الأمر ويقول عن غزّة في معجمه: «غَزَّ فلان بفلان واعتزّ به إذا اختصّه من بين أصحابه”.
هكذا هي منذ قيامها على الشاطىء الشرقي للبحر المتوسط، وهي تختصّ في الدفاع والمقاومة والتجارة، ولولا احتلال إسرائيل وقبلها الإنكليز لبقيت غزّة ملتقى التجّار العرب كما كانت دوماً.
ارتباط العرب بغزّة
ارتبط العرب بغزّة ارتباطاً وثيقاً، إذ تقول كتب التاريخ إنّ تجّارهم وفدوا إليها في تجارتهم وأسفارهم باعتبارها مركزاً مهمّاً لعدد من الطرق التجارية.
يقول عدد من التفسيرات إنّها كانت تمثّل الهدف لإحدى الرحلتين الشهيرتين اللتين وردتا في القرآن الكريم في “سورة قريش”: “رحلتا الشتاء والصيف”، رحلة القرشيين شتاءً إلى اليمن، ورحلتهم صيفاً إلى غزّة ومشارف الشام.
ليس أدلّ على ذلك من موت هاشم بن عبد مناف جدّ الرسول المصطفى عليه الصلاة والسلام في إحدى رحلات الصيف هذه، ودَفنه في غزّة بالجامع المعروف حالياً بجامع السيّد هاشم في حيّ الدرج الذي يتعرّض حالياً لقصف إسرائيلي مكثّف.
أغلق احتلال إسرائيل غزّة أمام مختلف الهجرات، سوى هجرة الهاربين من حصارها وقصفها وتدميرها المتواصل، وهم قلّة مقارنة بأكثر من مليونَين ما يزالون يشكّلون سكّان هذا القطاع الأكثر كثافة سكّانية في العالم.
ارتبط العرب بغزّة ارتباطاً وثيقاً، إذ تقول كتب التاريخ إنّ تجّارهم وفدوا إليها في تجارتهم وأسفارهم باعتبارها مركزاً مهمّاً لعدد من الطرق التجارية
انسحبت إسرائيل من غزّة انسحاباً أحادياً عام 2006، لكنّها تواصل حصارها للقطاع حتى الساعة، بل إنّ الحصار توسّع وأضحى أكثر شدّة منذ هجوم السابع من تشرين الأول. ولم تتوقّف المقاومة عن شنّ هجماتها ضدّ الاحتلال الإسرائيلي حتى وصلت ذروتها مع الضربة الأخيرة التي تركت جرحاً غائراً في صدر إسرائيل.
يبدو أنّ ردّ إسرائيل على هذا الجرح الغائر سيترك آثاراً أكبر على إصرار الفلسطينيين على المسير في درب دحر الاحتلال واسترداد حقوقهم الوطنية.
في غزّة أيضاً نشر الكاتب توفيق أبو شومر مقالاً في صحيفة الأيام الصادرة في رام الله “يودّع” فيه شقّته التي دمّرتها قذائف الجيش الإسرائيلي مع شقّتَي ابنه وابنته، فقال: “لم أكن أعلم أنّ اغتيال شقّتي وشقّتَي ابني وابنتي سيعيد إليَّ ذكرى مهدي الأوّل المغصوب من المحتلّين الإسرائيليين، نعم أصبحت اليوم أكثر قرباً من مهد ولادتي الأوّل”.
إقرأ أيضاً: هل هي حرب التصفية أم التسوية؟ (2)
في النكبة عام 1948 هُجّر الفلسطيني جمعة أبو شومر، على يد العصابات الصهيونية المسلّحة، من قرية بيت طيما، شمال شرق غزّة، حاملاً طفله “توفيق” الذي بلغ من العمر حينها عاماً واحداً.
أضاف أبو شومر الذي عاش معظم حياته في الشتات قبل أن يعود إلى غزّة مع بداية الحكم الذاتي عام 1994: “سأظلّ أردّد ما قاله الشاعر المبدع بابلو نيرودا: “اقطعوا كلّ الورود، واقتلوا كلّ العصافير، لكنّكم لن تمنعوا حلول الربيع””.