لماذا أوقفت السعوديّة مفاوضات التطبيع؟

مدة القراءة 6 د


في المقابلة التي أجرتها معه “فوكس نيوز” في 20 أيلول الماضي تطرّق وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى المفاوضات من أجل العلاقة مع إسرائيل. كشف أنّ هناك خطّة من إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن للوصول إلى هذه النقطة، وقال: “بالنسبة لنا القضية الفلسطينية مهمّة للغاية. نحن بحاجة إلى حلّ هذه المسألة، ولدينا مفاوضات جيّدة، وهي مستمرّة حتى الآن. علينا أن نرى إلى أين ستتّجه، ونأمل أن تصل إلى شيء وأن تسهّل حياة الفلسطينيين وتجعل إسرائيل أحد اللاعبين في الشرق الأوسط”. وحين سُئل عن “تقارير تقول إنّكم أوقفتم المحادثات”، أجاب بوضوح: “غير صحيح”. 

الإفراط الأميركيّ والردّ السعوديّ
اختلفت الظروف هذه الأيام وقرّرت السعودية وقف هذه المفاوضات. اختارت الولايات المتحدة إثر عملية “طوفان الأقصى” المبالغة والإفراط في الانحياز إلى إسرائيل بما في ذلك غضّ الطرف عن “نكبة” فلسطينية جديدة، فقرّرت المملكة وقف التفاوض. وحين وصل أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأميركي إلى الرياض في إطار جولة في المنطقة بعد موقفه العاطفي المؤيّد لإسرائيل، سمع من نظيره السعودي فيصل بن فرحان خلال اجتماع استغرق ساعة ونصف ساعة كلاماً صريحاً حازماً بشأن ثوابت المملكة. بعدها غادر السعودية ثمّ عاد لاحقاً على عجل ليعقد اجتماعاً “مثمراً” مع ولي العهد، حسب وصفه. بعد ساعات أعادت واشنطن اكتشاف الأبرياء المدنيين في غزّة وراحت تبحث سبل فتح الممرّات وإدخال المساعدات الإنسانية.

لا شيء كان غامضاً في موقف الرياض بشأن المسألة الفلسطينية واحتمالات العلاقة مع إسرائيل

تبلّغت الولايات المتحدة رسائل حازمة، وبدا موقف الرياض ردّاً على موقف واشنطن. صحيح أنّ مفاوضات كانت جارية بهدف الوصول إلى ما ترومه الولايات المتحدة بشأن إبرام اتفاق تطبيعي تاريخي للعلاقات بين السعودية وإسرائيل، لكنّ هذه المفاوضات تمّت حصراً من خلال الولايات المتحدة وموفدي إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن. أما وأنّ واشنطن وحلفاءها اختاروا تجاهل مزاج المنطقة وأدبيّاتها وقراراتها بشأن القضية الفلسطينية، فإنّ السعودية جمّدت ما جاهرت بالذهاب إليه حتى يتغيّر في الوعي الدولي والإسرائيلي ما هو واجب لإيجاد حلّ وجد العرب عام 2002 في المبادرة السعودية للسلام سبيلاً له.
مَن زار السعودية في الأشهر الأخيرة لم يشعر أبداً أنّ المملكة تهيّئ فعلاً نفسها لعلاقات “طبيعية” مع إسرائيل. لم تكن المملكة تناور في الانخراط في التفاوض، لكنّها، من خلال هياكلها ومؤسّساتها ومزاج الرأي العامّ فيها، لم تكن مؤمنة بجدّية تلبية الولايات وإسرائيل لمطلب الرياض المفصليّ والأساسيّ الذي بدا الشرط الأصعب لتذليل كلّ ما يمنع تطبيعاً في العلاقة مع السعودية. كانت واشنطن تمنّي النفس بإنجاز تاريخي يُحسب للمرشّح بايدن في انتخابات 2024 الرئاسية. وكانت الرياض تدرك أنّ للتطبيع مع دولة محورية وأساسية في العالمين العربي والإسلامي ثمناً يجب أيضاً أن يكون تاريخياً.
حين أكّد وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أنّ السعودية وإسرائيل ستقيمان علاقات طبيعية، كان في باله في استخدامه لصيغة المستقبل أنّ إسرائيل الحالية التي ما برحت تختار لحكمها منذ عقود نسخات متصاعدة من اليمين وشططه المتطرّف لا يمكن أن تكون حاضرة لفكرة السلام في الشرق الأوسط. وإذا ما توقّع بن سلمان أن يكون “الشرق الأوسط هو أوروبا الجديدة”، فإنّه كان جليّاً أنّ إسرائيل لا تتموضع وفق تلك الرؤية وذلك الطموح.

ثوابت الرياض لا تتغيّر
لا شيء كان غامضاً في موقف الرياض بشأن المسألة الفلسطينية واحتمالات العلاقة مع إسرائيل. فتحت المملكة أجواءها للنقل الجوّي المدني الإسرائيلي واستقبلت المسؤولين الإسرائيليين الذين يحضرون مؤتمرات دولية تستضيفها، وكانت دائماً تجاري الاتفاقات الإبراهيمية التي وقّعتها الإمارات والبحرين والسودان والمغرب مع إسرائيل، ومنفتحة على النقاش مع كلّ من بادر من عواصم العالم إلى تشجيع السعودية على أن تنضمّ إلى هذا المناخ. وحين حمل دبلوماسيّو واشنطن ملفّ التطبيع وضعت المملكة شروطها.
لا شيء كان مخفيّاً في حقيقة الموقف السعودي من فلسطين وقضيّتها وشعبها. 
حين اختلطت الأمور على المراقبين دعا العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز إلى قمّة عربية في الظهران في 15 تشرين الأول 2018 وأطلق عليها اسم “قمّة القدس”. 
وحين اختلطت على الرأي العامّ الدولي طبيعة تحوّلات المملكة وتطوّر موقفها بشأن العلاقة مع إسرائيل، أعادت الرياض إصدار مواقف جديدة-قديمة لا تحيد قيد أنملة عن الثوابت التي تمسّكت بها المملكة في مختلف العهود، بما في ذلك المبادرة السعودية التي أطلقها الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز.
كان الراحل حينها وليّاً للعهد. كشف المبادرة للصحافي الأميركي توماس فريدمان، فكتب الأخير عن السبق في شباط 2002، قبل أن تتبنّى القمّة العربية في بيروت المبادرة في 27 آذار من العام نفسه.
لم تقبل إسرائيل مبادرة السعودية مذّاك. لكنّ المنطقة بقيت مؤمنة بخطّتها للسلم وذهب بعضها في اتفاقات التطبيع إلى حدود جديدة لعلّها تشجّع إسرائيل على الدخول في منطق آخر وطور جديد. لم تكن الرياض أيضاً بعيدة عن هذه البيئة الحاضنة للسلام بشرط أن يكون هذا السلام عادلاً متبادلاً شاملاً يضع حدّاً لعذابات فلسطين والفلسطينيين. بدا أنّ إسرائيل كانت تعوّل دائماً على جمودها كمحور تدور حوله دول المنطقة وأن تسقط ثوابتها لمصلحة “أمر واقع” تفرضه برعاية أميركية غير مشروطة على منوال ما نشهده هذه الأيام.

إقرأ أيضاً: لماذا “طوفان” الغرب في دعم إسرائيل؟

تغيّرت السعودية. وتغيّرت جدّاً في إدارة الحكم ورسم الخطط وإنتاج الرؤى وبعث ديناميات جديدة داخل مجتمع البلاد. بدا كلّ شيء قد تطوّر وتحوّل وتبدّل وتعدّل، لكنّ الثابت الذي لا يتغيّر هو مصالح المملكة ومستقبلها والتمسّك بالدفاع عن مصلحة المنطقة بصفتها مصلحة سعودية بامتياز. وإذا ما كانت رؤية 2030 التي يسهر الأمير محمد على إنجازها هدفاً سامياً يُعدّ البلاد لرؤى طموحة لاحقة، فإنّ تحقيق ذلك الهدف يحتاج إلى بيئة إقليمية مستقرّة حاضنة لا يمكن أن تتوفّر من دون حلّ حقيقي لقضية فلسطين. شيء لم تفهمه إسرائيل ولم تدرك أهميّته الولايات المتحدة فتقرّر وقف الورشة وتجميد المفاوضات إلى أن يصبح العالم أجمع مستعدّاً لفهم منطقتنا والاعتراف بالتحوّل السعودي الكبير.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@

مواضيع ذات صلة

من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طُويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا، بل طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة، واستُخدمت شعاراته…

سوريا: عمامة المفتي تُسقط المشروع الإيرانيّ

عودة منصب المفتي العام للجمهورية السوريّة توازي بأهمّيتها سقوط نظام بشار الأسد. هو القرار الأوّل الذي يكرّس هذا السقوط، ليس للنظام وحسب، بل أيضاً للمشروع…

فرنسا على خط الشام: وساطة مع الأكراد ومؤتمر دعم في باريس

أنهت فرنسا فترة القطيعة التي استمرّت اثنتي عشرة سنة، مع وصول البعثة الفرنسية إلى العاصمة السورية، دمشق. رفعت العلم الفرنسي فوق مبنى سفارتها. لم تتأخر…

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…