لا يبدو أنّ العقل، في خضمّ الحرب بين إسرائيل وحركة حماس، قادر على تجاوز المناخ العاطفي المشحون. فلا بشاعة هجوم “حماس” على مدنيين إسرائيليين في بلدات غلاف غزّة، ولا الردّ الإسرائيلي الفائق الدمويّة على القطاع، يتيحان الكثير من المجال للبحث في الحقائق السياسية الأساسية.
التعقّل الآن مهمّة شبه مستحيلة وإن كانت في غاية الضرورة. فما يتشكّل الآن يتجاوز نتائج الميدان المباشرة ليطال شكل الشرق الأوسط برمّته وشرعية نظمه السياسية وأفق شعوبه وناسه وأهله.
سأبدأ من الأصعب: إنّ المعاناة المستمرة في غزّة، ليست قدراً لا مفرّ منه، بل هي نتيجة خيارات محدّدة – فلسطينية وإسرائيلية، جعلت الانفجار الحالي هو الأفق الوحيد المتاح.
“حماس”، التي تسيطر على قطاع غزّة منذ انقلابها الدموي على حركة فتح صيف عام 2007، أخذت القطاع وأهله وعلاقته بإسرائيل إلى مكان آخر تماماً، بعدما كانت إسرائيل قد انسحبت بالكامل منه عام 2005 وفكّكت كلّ مستوطناتها فيه.
التعقّل الآن مهمّة شبه مستحيلة وإن كانت في غاية الضرورة. فما يتشكّل الآن يتجاوز نتائج الميدان المباشرة ليطال شكل الشرق الأوسط برمّته وشرعية نظمه السياسية وأفق شعوبه وناسه وأهله
لم يبدأ الحصار على غزّة إلا بعدما فازت الحركة في الانتخابات الفلسطينية التشريعية والوحيدة عام 2006. تفاقمت حدّة الحصار بعد انقلاب 2007، وإمساك “حماس” المحكم بغزّة. رويداً حوّلت “حماس” القطاع إلى قاعدة إيرانية على حدود إسرائيل، والأهمّ منطلق لنهش المشروع الوطني الفلسطيني عبر معاداة رام الله وتهميش وتهشيم منظمة التحرير بشكل مثابر وممنهج.
حماس لا تعكس إرادة الفلسطينيين
أدّى ضرب العملية السياسية الفلسطينية وتفريغ المؤسّسات من مضمونها السياسي، إلى ولادة حالة في القطاع يصعب القول إنّها تعكس إرادة الفلسطينيين فيه. أمكن رصد ذلك في فورات التظاهر في غزّة ضدّ “حماس” في سياق التحرّكات التي استلهمت الربيع العربي. فشلت “حماس” طوال 16 عاماً في تقديم أيّ ملمح من ملامح الحكم الرشيد. وبدلاً من إفساح المجال لحلول سياسية أو لفكرة وطنية مختلفة، أخذت الحركة شعبها رهينة لأهدافها الخاصة.
لم تكن الخيارات محدودة. وكان أمام “حماس” خيار عدم تولّي الحكم على الرغم من فوزها في الانتخابات. وكان بإمكانهم اختيار السعي إلى تحقيق أهداف أوسع تتجاوز المصالح والأجندات الفئوية. ومع ذلك، فقد اختاروا أن يحكموا ضدّ كلّ الاعتبارات العملية، وهو ما أدّى إلى مراكمة أسباب البؤس التي انفجرت مرّة واحدة في المشهد الحالي.
طوال هذا الوقت، وعلى الرغم من العداء الشديد بين “حماس” وإسرائيل، كان العدوّان اللدودان حليفين موضوعيَّين لبعضهما البعض.
شيّد بنيامين نتانياهو، طوال سنوات حكمه، استراتيجية إسرائيلية كاملة تقوم على فكرة تمكين “حماس” من قطاع غزّة، وتغذية خلافاتها مع رام الله بهدف تقويض السلطة الفلسطينية في الضفّة، وتبديد فرص قيام دولة فلسطينية موحّدة. وجاهر عضو الكنيست اليميني المتطرّف والوزير في حكومة بنيامين نتانياهو بتسلئيل سموتريتش، بأنّ “حماس” شريك مفضّل للإسرائيليين، بل كان الصوت الأعلى في الدفاع عن زيادة إصدار تصاريح العمل للعمّال في غزّة، وتسهيل تمويل الحركة عبر قطر لتعزيز انفصال غزّة عن الضفّة.
كلّ هذه الأوهام الإسرائيلية انتهت يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأوّل) مع الهجوم الصاعق الذي شنّته “حماس” ليتبيّن أنّ التذاكي الإسرائيلي لا يمكن أن يكون بديلاً دائماً عن الحلّ السياسي مع الفلسطينيين.
ما تعيشه غزّة اليوم ليس قدراً، بل جريمة شارك فيها “الضدّان” أي إسرائيل و”حماس”، وزاد عليها ترهّل السلطة الفلسطينية وفسادها وتعفّن مؤسّساتها الوطنية.
المعاناة المستمرة في غزّة، ليست قدراً لا مفرّ منه، بل هي نتيجة خيارات محدّدة – فلسطينية وإسرائيلية، جعلت الانفجار الحالي هو الأفق الوحيد المتاح
مسؤولية إيران… وخطيئتها
دفعت إيران القطاع إلى هذه الحرب، ضمن رؤية محدّدة وخطاب يريد التأكيد أنّ إسرائيل مشروع قابل للنهاية. الحقائق على الارض تفيد بأنّ ما حصل حتى الآن أنهى إمكانات المشروع الوطني الفلسطيني في أن يتحقّق. إنّها نهاية فلسطين لا نهاية إسرائيل. فلا يمكن أن تكون “حماس” بعد الذي حصل جزءاً من أيّ عملية سياسية. ولا تمتلك السلطة أو “فتح” الحدود الدنيا المطلوبة من المصداقية والمشروعية. فمن هو الجانب الفلسطيني الذي سينهض بحقوق الفلسطينيين ووفق أيّ رؤية وعبر أيّ مؤسّسات وبدعم من أيّ جهات إقليمية؟
كلّ الإجابات عن هذه الأسئلة صعبة وناقصة.
كُتب الكثير سابقاً عن “هذا الدمار العظيم”.. وسيُكتب أكثر.. لكنّ الدمار يبقى دماراً مهما غالبته اللغة والمخيّلة.
تحتاج فلسطين اليوم إلى وصاية عربية ودولية تأخذ بيدها إلى حيث يمكن ترميم ما بقي من مشروع الدولة، بعيداً عن الاختطاف الإيراني. وتحتاج المخيّلة السياسية إلى الكثير من الجهد لتحديد الأثمان التي ستُدفع للخاطف الإيراني كي يطلق سراح الرهينة.
اليابان… وخيار “الاستسلام”
على الرغم من الاختلاف الكبير في السياقات الجيوسياسية، لكنّ فكرة استسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية وإعادة إعمارها بعد الحرب لم تغادر ذهني منذ انطلق إعصار الدمار. في عام 1945، وبعد قنبلتين نوويّتين، اعترفت اليابان بهزيمتها واختارت التخلّي عن عقيدتها وسياساتها السابقة.
الفلسطينيون ليسوا مشروعاً إمبراطوريّاً، بالطبع، بل أصحاب حقّ، اختطفهُ من مشروعٌ إمبريالي إقليمي هو مشروع ولاية الفقيه.
أجرت اليابان تعديلاً جذرياً في توجّهاتها، برعاية من الولايات المتحدة وغيرها من الدول الحليفة، وتبنّت دستوراً سلميّاً جديداً، واستثمرت بكثافة في التعليم والتكنولوجيا، وركّزت على إعادة بناء اقتصادها بدلاً من الحفاظ على الجهاز العسكري. كان خيار اليابان تبنّي هذه التغييرات سبباً في ظهورها قوّةً اقتصاديةً عالميةً وعضواً محترماً في المجتمع الدولي.
إقرأ أيضاً: فيلم “باي باي حماس” من بطولة “رامبو الإسرائيليّ”
الفروقات الأكاديمية بين الحالتين كثيرة. لكنّ المشترك بينهما فكرة بسيطة مفادها أنّ لكيان سياسي أن يختار الابتعاد عن المسارات المدمّرة، ويتبنّى مبادئ جديدة، لصناعة مستقبل أفضل.
لنكفّ قليلاً عن مديح الدمار.. لنكفّ قليلاً عن انتظار انتصارات قد لا تأتي..
دماء غزّة يمكن أن تكون جسر عبور نحو دولة مستحقّة، رغم أنف التعنّت اليميني الإسرائيلي.
دماء غزّة فرصة لأن يكون للفلسطينيين بعضٌ من حلمهم أو جسرٌ نحو دماء جديدة.
فماذا نختار؟
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@