أراد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من قمة القاهرة للسلام 2023 أن تؤسّس فعلاً لا قولاً لخارطة طريق للحل، فنجح في جمع أكثر من ثلاثين دولة ومنظمات دولية تمثلت على مستويات رفيعة بين رئيس وملك ورئيس وزراء ووزراء خارجية ولكن التمثيل الهزيل للولايات المتحدة الاميركية الذي اقتصر على سفيرة البلاد في مصر كان لها بالمرصاد في تصويب واضح على أنّ أي حلّ لن يظهر قبل أن تستكمل اسرائيل عمليتها العسكرية.
انطلق السيسي من طرحه في القمة في محاولة لايجاد حلّ مشترك يبدأ بوقف اطلاق النار وإرسال المساعدات، وعدم تهجير الفلسطينيين في قطاع غزّة إلى سيناء ثم إعادة وضع الحل السياسي بناء على حلّ الدولتين وفق أراضي الـ67 على أن تكون القاهرة محطة اضافية في مسار السلام العادل والشامل للقضية الفلسطينية، بعد فشل أوسلو وفشل القمّة العربية في بيروت عام 2002 في إنجاح المبادرة العربية للسلام.
واكب الملك الاردني عبد الله الثاني نظيره المصري في مسعاه الجدي في هذه القمة، فهما همّهما واحد. بالاضافة إلى كل الاهداف التي وضعت للقمة، إلا أنّ الواقع المشترك بين السيسي وعبد الله الثاني في رفضهما تهجير غزّة إلى سيناء والضفة إلى الأردن وضعهما في مقدَّم الباحثين عن حلّ.
في التقويم العام فشلت القمة في الوصول إلى بيان ختامي مشترك، وفي التفاصيل نجحت مصر في انتزاع اعتراف دولي غير مباشر بحقوق الفلسطينيين وبارتكاب إسرائيل مجازر لا تقيم اعتباراً لحقوق الإنسان والقانون الدولي الذي لا يمكن للغرب أن يتهرب منه طويلاً مهما بلغت حاجته إلى ذلك.
لبنان وبحسب المصادر الدبلوماسية، فهو لم يُدعَ إلى القمة لأنه في عرف وتقويم الدول، أصبح إلى جانب إيران وسوريا، محسوباً على محور المقاومة بما فيه من وجود ودور محوري للحزب
قمّة القاهرة ما لها وما عليها؟
في العاصمة الادارية التي يبنيها الرئيس المصري مدينة عصرية تحاكي المستقبل على بعد مرمى حجر من أقدم المدن في التاريخ في حضاراتها وفرعونها وموميائها “القاهرة”، قرّر أن يعقد قمّة كان يمكن لها أن تكون تاريخية. على طاولة فندق “الماسا” التابع للجيش المصري، اجتمع قادة وملوك ورؤساء دول كبرى. بريطانيا وفرنسا وايطاليا واسبانيا واليونان والنروج وقبرص حضروا من اوروبا، روسيا والصين، مجلس التعاون الخليجي والدول العربية حضروا أيضاً كل من مقاربته للقضية الفلسطينية التي وضعها تاريخ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) قضية آنية عاجلة انسانياً وسياسياً واستراتيجياً.
تونس والجزائر قاطعتا القمّة انطلاقاً من موقفهما السياسي من اقرار بند “إدانة قتل المدنيين من الجهتين” الذي سبق أن أقرّ في اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة منذ أكثر من أسبوع. يومها تحفّظا مع العراق وسوريا وليبيا. في هذه القمّة لم تُدعَ سوريا وتولى رئيس الوزراء العراقي الكلام وكأنه يتكلم بلسان محور المقاومة، فدان المساواة بين القاتل والمقتول داعياً إلى قيام دولة فلسطينية لا تمزقها المستوطنات الاسرائيلية في موقف بدا متقدّماً من بغداد.
أما لبنان وبحسب المصادر الدبلوماسية، فهو لم يُدعَ إلى القمة لأنه في عرف وتقويم الدول، أصبح إلى جانب إيران وسوريا، محسوباً على محور المقاومة بما فيه من وجود ودور محوري للحزب. فلسطين حضرت في اللحظة الاخيرة بعدما أصرّ الرئيس محمود عباس على الحضور بصفته “ممثلاً شرعياً معترفاً به من العرب والغرب”.
قمّة بلا إيران وأميركا
حضر العالم الى القاهرة وغابت عواصم الصراع الاولى. في واقع حال هذه المنطقة، لا حلّ للصراع التاريخي على القضية الفلسطينية إلا بجمع طرفَي الصراع الأقوى. أما هنا في القاهرة فحضرت عواصم العالم وغابت أميركا وإيران.
طهران هي الغائب الابرز عن الطاولة والحاضر الابرز على الجبهات من غزّة إلى لبنان والعراق واليمن وسوريا. وفي الوقت الذي غاب الاميركي بثقله عن القمّة أيضاً، يحضر في المنطقة بعديده السياسي والعسكري، وفي تبادله رسائل مع إيران ومحورها الغائب عن قمة القاهرة باستثناء ما صدر عن العراق. وعليه، كيف لهذه القمة أن تؤدّي على الأقل إلى وقف اطلاق النار وأصحاب القرار غائبون؟
من جهتها تقصدت الولايات المتحدة الاميركية أن تتمثل بسفيرة البلاد في مصر في تمثيل هزيل لا يخلو من رسالة سياسية واضحة. مصادر دبلوماسية وضعت هذه الرسالة في بندين:
الأول: ضوء أخضر أميركي مستمر معطى لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو باستمرار الحرب على حركة حماس بما فيها الحرب على غزة.
الثاني: الردّ على موقف العرب من استهداف المستشفى المعمداني، وإلغاء العاهل الأردني القمّة الرباعية التي كانت مقررة في عمان بين رؤساء الاردن ومصر وفلسطين مع الأميركي جو بايدن قبل زيارته إسرائيل. وعليه، بعدما كان مقرراً أن يحضر بحسب كل المعلومات الدبلوماسية وزير الخارجية الاميركي أنتوني بلينكن أو المبعوث الأميركي الخاص للاغاثة ديفيد ساترفيلد اقتصر التمثيل على السفيرة.
تحدثت مصادر دبلوماسية لـ”أساس” عن أزمة عميقة يعيشها قادة العالم في مقابل الرأي العام العالمي. لم يعد أحد يستطيع أن يختبئ من فظاعة الجريمة بحق المدنيين في غزّة
قمّة القاهرة: نقاشات حادّة في الكواليس
بعد افتتاح القمة والجلسة العلنية فيها بكلمة للسيسي، توالت الكلمات فاختلفت بحسب خلفيات كل من الدول. ولكن على الرغم من كل الاختلافات، استطاعت مصر أن تنتزع اعترافاً دولياً حقيقياً بحقوق الشعب الفلسطيني بالحياة في دولة ذات سيادة، ولا تخضع لسلطة الاحتلال. واستطاعت أيضاً انتزاع اعتراف عالمي بالعدوان الاسرائيلي على المدنيين في غزّة ومشاهدتهم يقتلون وهم في سجن كبير لا كهرباء ولا وقود ولا طعام ولا دواء فيه في أكبر مجزرة يشهدها العالم في هذا التاريخ الحديث.
تحدثت مصادر دبلوماسية لـ”أساس” عن أزمة عميقة يعيشها قادة العالم في مقابل الرأي العام العالمي. لم يعد أحد يستطيع أن يختبئ من فظاعة الجريمة بحق المدنيين في غزّة. لا تستطيع أوروبا أن تشيح بوجهها عن قتل الاطفال والنساء في غزّة فكيف سيواجه العالم أكبر مجازر بحق الانسانية وهو يتفرج؟
برز هذا الضغط في نقاشات الجلسة المغلقة لممثلي الدول المشاركة في القمّة. وفي المعلومات أنّ النقاش الحاد جداً تمحور حول نقطتين:
– الاولى: الغرب يطلب تصنيف حركة حماس على انها ارهابية بينما يتحفظ العرب على ذلك على الرغم من قيامهم بإدانة ما أدت إليه عملية السابع من أكتوبر من “قتل المدنيين من الجهتين” على حد توصيف بيان الجامعة العربية في وقت سابق.
– ثانياً: رفض الغرب مطلب الوقف الفوري لإطلاق النار، وأراد أن يكرّس حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها بالوسائل التي تراها مناسبة بينما تحفّظ العرب وعارضوا هذا البند الذي يمكن له أن يكون مدخلاً للقضاء على الفلسطينيين في غزّة تحت عنوان ضرب حماس والقضاء عليها.
في خلاصة القمّة، لا بدّ من القول إنّ بيان الرئاسة المصرية فور صدوره بدا إعلاناً صارح من خلاله السيسي العالم، مفصّلاً في مضمونه أهدافه في وقف العدوان وارسال المساعدات وفشله في جعل العالم يضغط باتجاه تحقيق ذلك من دون مقابل تصنيف حماس حركة ارهابية والقضاء عليها. ولعل البيان المصري الذي أُعلن في مضمونه فشل التوافق على بيان ختامي خير من عبّر على ازدواجية حقوق الانسان في حق الاسرائيلي في الحياة وعدم أحقيتها للفلسطينيين.
إقرأ أيضاً: قمّة مصر: علاج من الجذور وحلّ تاريخيّ… بدولتين
الغرب يحمي دولة تجمع يهود العالم..
في قراءة متأنية لما أحدثه تاريخ السابع من أكتوبر، يمكن القول بسهولة بحسب توصيف دبلوماسي غربي انه خطير لدرجة ان شكل التهديد الاكثر جدية لإسرائيل منذ احتلالها فلسطين. لم تعد إسرائيل تريد أن تعيش خطر وجودها، ولم تعد أوروبا تريد أن تعود إلى زمن مضى. لا بل ان ميزان العالم اليوم راضٍ جداً من وجود “دولة اسرائيل تجمع يهود العالم”. هكذا يصف دبلوماسي غربي مواكب لأعمال القمة ومتابع لأحداث غزّة، متسائلاً: “إذاً كيف لحماس اليوم أن تهدد الكيان الاسرائيلي؟”. وعليه تتحدث مصادر مواكبة للموقف الأميركي عن أنّ عواصم القرار في الغرب أجمعت على ضرب حماس في عمقها والقضاء عليها بالحد الذي يمنعها من استعادة قوتها، ومن بعد ذلك يستطيع العالم ومعه إسرائيل أن يذهبا إلى تسوية شاملة للقضية الفلسطينية. وعليه يبدو أنّ ما حققته حماس في عمليتها هو اقتناع العالم أنّ لا حلّ في هذه المنطقة التي يريدون بها سلاماً عادلاً وشاملاً إلا بالاعتراف بدولة فلسطين وبحلّ الدولتين، تماما كما جاء في مواقف الدول المعلنة في القمّة. ولكن ذلك أمامه عقبات كبرى، أولاها ضعف تمثيل الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وثانيتها مدى اقتناع إسرائيل بأنها دولة محتلة يتوجب عليها التراجع عن احتلال أراضٍ فلسطينية لقيام دولة عاصمتها القدس. وثالثتها ان هناك محوراً بكامله على رأسه إيران ما يزال بعيداً عن هذا التفاوض.
لمتابعة الكاتب على تويتر: josephinedeeb@