فنّ “حلال” أم ماذا؟

مدة القراءة 5 د


فنّانة محجّبة من عاصمة التحرير بنت جبيل، ومن عائلة جنوبية عريقة، تقدّم ستاند آب كوميدي، لكن سمّته “ستاند آب عمومي”، على مسرح “رسالات” في المركز الثقافي لبلدية الغبيري، في الضاحية الجنوبية لبيروت. ما العجب في ذلك؟ لماذا كلّ هذا النقاش المندلع على وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية، عبر حسابات يُعدّ أصحابها من “البيئة الحاضنة”؟

نقاش مفتعل

عملياً، لا تمييز حادّاً بين المرأة والرجل في الضاحية. البيئة الحاضنة ليس فيها تمييز فاقع. فيها المجاهد والمجاهدة، والشهيد وأمّ الشهيد وزوجته وابنته وشقيقته. أبعد من ذلك، في عقيدتها وفي ثقافتها الكربلائية الإمام الحسين، وفيها أيضاً السيّدة زينب والسيّدة أمّ الفضل العبّاس.

ضاحية المعاني الكثيرة

تصوير الضاحية على أنّها قندهار، مريب. الضاحية ليست كذلك. هي ضاحية ككلّ ضواحي المدن في العالم، وإن اختصّت بسِمات خاصّة بها. الضاحية بيئة فتيّة. الغالبيّة الغالبة من أهلها، شبّان وشابّات. المقاهي فيها كما المعاني عند الجاحظ، على الطرقات. مراكز التجميل والصالونات فيها، متّصلة لا تنقطع من أوّلها إلى آخرها. بالكاد تفصل بينها أمتار قليلة. على تخومها الحانات وصالات ألعاب التسلية (بوكر وغيرها). السائقات على طرقاتها أكثر من السائقين، والعاملات في المحالّ والمطاعم والمتاجر، كما العاملون. المنقّبات والمحجّبات فيها كثيرات، وغير المحجّبات أيضاً. الضاحية الجنوبية لبيروت نموذج مصغّر عن البيئة الحاضنة الكبرى، بيئة الثنائي، وعلى وجه الخصوص الحزب ذو الثقافة والممارسات الاجتماعية الطاغية أكثر من غيرها. لكنّه طغيان لم يستطع إلغاء الآخر من تلك البيئة، ولا ثقافته. الآخر الشيعي. نعم ثمّة آخر شيعي من أقصى الجنوب إلى أعماق الضاحية. يُمنَع ويُنبذ ويُقمَع ويُلغى ويُقتَل. لقمان سليم خير نموذج. كان في قلب الضاحية، في الغبيري حيث مسرح النقاش المشتعل حالياً، وما يزال جاثماً فوق صدورهم.

لا تمييز حادّاً بين المرأة والرجل في الضاحية. البيئة الحاضنة ليس فيها تمييز فاقع. فيها المجاهد والمجاهدة، والشهيد وأمّ الشهيد وزوجته وابنته وشقيقته

لماذا الصدمة؟

أن تقدّم الفنّانة المحجّبة ملاك بزّي ستاند آب كوميدي، من الضاحية وفيها ولها، حدث جديد نعم. لكنّه ليس غريباً. ليس صادماً كما يحاول النقاش الدائر تصويره. الأرجح أنّ وراء الأكمة ما وراءها. في البيئة الحاضنة فنّانون ساخرون وموهوبون وموهوبات، يبرعون في مجال الـ”ستاند آب كوميدي”، لكن بعيداً عن الضاحية. خارجها. فيها النقد ممنوع. خاصةً الساخر منه. هنا بيئة المقدّس الذي لا يجوز المسّ به. لكن من يقطع ضحكةً؟ من يسدّ الطريق أمام سخرية ذكيّة. من يحجب قولاً ساخراً أو جملةً لمّاحةً؟ من يخفي صوتاً؟ هذا زمن تجاوزناه منذ ثورة تكنولوجيّة وأكثر.

الفنّانة بزّي، ليست من كوكب آخر. هي من هذه البيئة من أقصاها إلى أقصاها. لا شيء على صفحتها على فيسبوك يشير إلى أنّها ستقول ما يزعج البيئة تلك، أو يخرج عن مألوفها. تقول على صفحتها إنّها مؤسِّسة Shams Acting Space، ومدرِّسة مادّة الدراما والتمثيل في مدارس المصطفى، وهذه أيضاً من مدارس البيئة الحاضنة ودرست المسرح في معهد الفنون في الجامعة اللبنانية.

الإعلان واضح: هو عمل فنّي ناقد “يحاكي قضايا وقيماً اجتماعية بأسلوب هادف وجاذب”، ويحمل اسم “ستاند آب عمومي”، يقدّمه علي منصور، عبد النبي سلمان، ملاك بزّي وحسين ناصر الدين. أمّا المسرح والجهة الداعية فلا لبس في انتمائهما وهويّتهما.

الفنّ الحلال

دارت غالبية التعليقات حول انضباطية العمل الذي يُعتزم تقديمه وموافقته الناحية الشرعية. سأل شيخ: “ما هو دور الفتاة؟”. سؤال مريب. الفتاة محجّبة وحتماً ستراعي حجابها في ما ترتدي وتقدّم وتقول. انقسم المعلّقون على الحدث والمشاركون في النقاش بين مؤيّد فاجأه هذا الاستهجان وهذا الهجوم، ومعارض ذهب مذاهب كثيرةً من الشرع إلى الشخص.

ثمّة من يريد أن يضع معايير “شرعيّة” للفنّ. من يريد أن يحكم على العمل من خلال ظروفه وشكله وبيئته وأشخاصه، لا من خلاله هو نفسه، محتوىً وشكلاً وأداءً وبناءً وإخراجاً. ثمّة من يريد أن يعود بالنقد إلى قرون خلت، قافزاً فوق كلّ هذا التراكم المعرفي الذي حدث. أحسب أنّ العمل كلّه، لتقديم فنّ “شرعيّ”. ثمّة من يفرض ثقافةً في عصر لا حدود بين ثقافاته، ولا حُجُب.

إقرأ أيضاً: خالد خليفة… لاعَبَ الموت حتى فاجأه في “دمشقه”

ثمّة من يسعى إلى تعليم أهل البيئة التمييز بين الفنّ “الحلال” والفنّ “الحرام”. ربّما هي صورة مصغّرة عمّا جرى للسينما الإيرانية في بلادها، ولغيرها من الفنون. الفنّ فنّ، لا يُحكم عليه إلا من داخله، لا من خارجه. الامتعاض من وجود امرأة في “ستاند آب كوميدي”، ليس من البيئة. البيئة تتابع مسلسلات مدبلجةً أشدّ وطأةً من “الستاند آب كوميدي”، وفق معاييرها. البيئة تستمع إلى فنّانات يقُلن ما لا يجرؤ عليه أيّ كوميدي، أو يتعفّف عنه، من ريم السواس إلى سارة زكريا وقبلهما نعيم الشيخ وكلّ ذاك اللون.

لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@

مواضيع ذات صلة

سجون داعش… متحف افتراضيّ لحكايا الجرائم

قبل كلّ هذه الموجة العسكرية الجديدة في سوريا، وعودة “جبهة النصرة” المولودة من رحم تنظيم “داعش”، باسمها الجديد: “هيئة تحرير الشام”، وقبل التطوّرات الأخيرة التي…

مهرجان BAFF يضيء على “روح” لبنان… في لحظة موت

يقدّم مهرجان BAFF هذا العام، الذي انطلق اليوم الإثنين، عدداً من الأفلام التي تحيّي “طرابلس عاصمة الثقافة العربية” و”أسرار مملكة بيبلوس” و”المكتبة الشرقية إن حكت”…

بيروت تتنفّس الصّعداء: سينما… وبوح النّازحين

بدأت الحياة الثقافية تتنفّس الصعداء في لبنان وإن بخجل، بعد شلل قسري تامّ منذ أواخر أيلول الماضي وتوسّع الحرب الإسرائيلية على لبنان وتخطّيها الحدود إلى…

فيلم “أرزة”: بارقة أمل لبنانيّة… من مصر إلى الأوسكار

أينما يحلّ فيلم “أرزة” اللبناني (إخراج ميرا شعيب وتأليف فيصل سام شعيب ولؤي خريش وإنتاج علي العربي) يمنح المشاهد، وخصوصاً اللبنانيين، الكثير من الأمل. فعدا…