المشرق العربيّ واحدٌ في نكباته الكثيرة

مدة القراءة 6 د


فشلت كلّ المحاولات السياسية الوحدوية في المشرق العربي على اختلاف منابتها الأيديولوجية، ودخلت كلّها في صراعات بينيّة كانت أشدّ أحياناً من صراعاتها مع إسرائيل، وبالأخصّ بين البعث السوري والبعث العراقي، وهو صراع امتدّ إلى لبنان في ثمانينيات القرن الماضي، وكان مؤثّراً في مجمل الحروب التي اندلعت حينذاك، وتحديداً حرب التحرير التي أطلقها الجنرال ميشال عون ضدّ القوات السورية في لبنان، والتي أعقبتها حرب الإلغاء بين الجيش اللبناني بقيادة عون والقوات اللبنانية بقيادة الدكتور سمير جعجع، وكلا الطرفين كان يتلقّى دعماً من نظام صدّام حسين.
لكنّ عدم تحقّق الوحدة السياسية في المشرق العربي، على الرغم من أنّ نظام الحكم في أكبر دولتين فيه، سوريا والعراق، كان وحدويّاً، لم يلغِ التداخل الجيوسياسي والديمغرافي بين كلّ دوله، ولا يحتاج الناظر إلى أحوال المشرق العربي اليوم إلى كثير من الوقت ليستنتج أنّ كلّ دوله منكوبة، وأنّها متداخلة في نكبتها من العراق مروراً بسوريا وصولاً إلى لبنان، هذا إذا حيّدنا النكبة الفلسطينية المستمرّة التي أكّدت باكراً أنّ مستقبل المنطقة متفجّر وأسود.

دواخل متّصلة
بعبارات أخرى، لا تعني الحدود بين دول المشرق العربي أنّ دواخل هذه البلدان مفصول بعضها عن بعض، وأنّ ما يحصل في أيّ بلد من البلدان يبقى محصوراً ضمن حدوده ولا ينتقل إلى البلدان الأخرى. والغزو الأميركي للعراق في عام 2003 للإطاحة بنظام صدّام حسين لم يكن حدثاً عراقياً وحسب، بل هو مشرقي أيضاً وعربي تالياً. وها نحن اليوم نعيش في ما نعيشه ارتدادات هذا الحدث، وبالأخصّ لأنه أسقط جداراً قويّاً أمام تمدّد النفوذ الإيراني في المنطقة الذي بدّل أوضاعها رأساً على عقب وأدخلها في حروب مفتوحة وويلات لا تنتهي. والمفارقة أنّ العقيدة الإيرانية أخرجت أخيراً نظرية وحدة الساحات وكأنّها بذلك تؤكّد الترابط الوثيق بين بلدان المشرق من العراق إلى لبنان التي تخضع عملياً لسيطرتها، وإن بتفاوت بينها.

لا تعني الحدود بين دول المشرق العربي أنّ دواخل هذه البلدان مفصول بعضها عن بعض، وأنّ ما يحصل في أيّ بلد من البلدان يبقى محصوراً ضمن حدوده ولا ينتقل إلى البلدان الأخرى

إنّ عقيدة وحدة الساحات تلك، وهي التي يُعدّ الحزب عرّابها الأساسي، تقابلها نزعة لبنانية تاريخية ما فتئت تقنع نفسها وتحاول إقناع الآخرين بأنّه يمكن عزل لبنان عن محيطه ومنع تأثيراته عليه. وهذا وهم ما بعده وهم، لا بل هو سذاجة ما بعدها سذاجة، فنظرية بهذا الاتّساع، أي وحدة الساحات، لا يمكن مقابلتها بنظرية بهذا الضيق، أي لبنان أوّلاً.
لا يعني هذا أنّ تأكيد الأولويات اللبنانية خطأ، لكنّ الخطأ تأكيدها بمعزل عمّا يجري في المحيط، وتحديداً في سوريا، التي لم يسبق تاريخياً أن حصل تداخل بينها وبين لبنان بهذا القدر، ومن ذلك قضية النزوح السوري التي تتحوّل يوماً بعد يوم إلى عنوان سياسي رئيسي، لكنّ مقاربتها لا تحصل من منظور سياسي إلا من قبل الحزب، الذي يحاول استخدامها لابتزاز الداخل والخارج.
الواقع أنّ اللبنانيين لا يمكنهم أن يعتبروا أنّ النزوح السوري عبء عليهم وأنّه كان يمكن تجنّبه، ما دام لبنان تحوّل منذ اليوم الأوّل للحرب السورية جزءاً من هذه الحرب التي دخلها الحزب من الباب العريض ومكث فيها حتى اليوم. فأن يكون لبنان جزءاً من الحرب السورية يعني حتماً أنّه سيتلقّى جزءاً كبيراً من ارتدادتها، بما في ذلك النزوح السوري.

إنّ عقيدة وحدة الساحات تلك، وهي التي يُعدّ الحزب عرّابها الأساسي، تقابلها نزعة لبنانية تاريخية ما فتئت تقنع نفسها وتحاول إقناع الآخرين بأنّه يمكن عزل لبنان عن محيطه ومنع تأثيراته عليه

النزوح مشكلة سوريّة أيضاً
لا يعني هذا أنّ النزوح السوري لا يسبّب مشكلة كبرى للبنان، في ظلّ الانهيار الاقتصادي والضيق السكّاني والمزاحمة في سوق العمل… إلخ، لكن لا حلّ لهذه الأزمة ما دامت الأوضاع السياسية في سوريا ولبنان على حالها، أي ما دامت سوريا بلا حلّ سياسي، وما دام الحزب مسيطراً في لبنان مستنسخاً تجربة النظام في سوريا، إلى درجة أنّه يمكن القول إنّ الجانب السوري في الحزب يزاحم جانبه الإيراني، وتحديداً لجهة أسلوبه في التعاطي مع الواقع اللبناني، باعتباره الوريث الشرعي للوصاية السورية على لبنان. ولذلك شعار “وحدة المسار والمصير” لم يسقط بل أخذ معاني أخرى، فلبنان وسوريا الآن واحد لجهة أنّه لا يمكن فصل الأوضاع في أحدهما عن الآخر، وبالأخصّ لبنان الدولة الصغرى التي تتأثّر أكثر بما يحصل حولها.  
والحال هذه لا يفترض أن يكون النزوح السوري مشكلة لبنانية بحتة، بل مشكلة سورية أيضاً، إذ كيف يمكن تعريف القضية السورية إن هي استثنت مسألة إفراغ سوريا من شرائح واسعة من سكّانها، بل يجب أن تكون القضية السورية الرئيسة الآن هي قضية العودة، أي تأكيد حقّ العودة وتحويله عنواناً سياسياً رئيسياً، تماماً كما جعل الفلسطينيون حقّ العودة في قائمة أدبيات قضيتهم وإن لم يتحقّق حتى الآن وما تزال دونه عقبات كثيرة وأكثر من ذي قبل.
هذا كلّه كافٍ لمقاربة قضية النازحين مقاربة سياسية، سوريّاً ولبنانيّاً، هذا إذا كان هناك تصميم لبناني وسوري على تبديل الأوضاع في كلا البلدين. وهذا لا يعني بالضرورة أنّه يجب أن تكون هناك معركة سورية لبنانية مشتركة لتحقيق العودة، لكنّها معركة واحدة ولو منفصلة. إذ إنّ بقاء النازحين خارج سوريا له تأثير سياسي كبير في سوريا، وتالياً في لبنان، لأنّ بقاء أوضاع سوريا على حالها يعني حتماً بقاء أوضاع لبنان على حاله.

إقرأ أيضاً: الدولة الوطنية… وصفةً دائمة لـ”الهزيمة”

أمّا وهْم عزل لبنان وأنّ في الإمكان معالجة مشكلاته بمعزل عن محيطه، وتحديداً السوري، فهو ساقط سياسياً وكارثيّ، حتى إنّه يساهم مساهمة قويّة في تأبيد الوضع الراهن في لبنان. لقد آن الأوان لمقاربة سياسية لبنانية مختلفة لموضوع النزوح على قاعدة أنّه قضية سورية بقدر ما هو قضية لبنانية، وهذه مسألة تنبّه لها باكراً المعارض السوري رياض الترك، لكنّه لم يلقَ آذاناً صاغية، لأنّ ما ينطبق على المعارضة اللبنانية ينطبق أكثر على المعارضة السورية!

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: eliekossaifi@

مواضيع ذات صلة

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…