“هناك تنسيق بين إيران و”حماس”، وأهدافهما في العديد من القضايا ربّما متطابقة. لكن أستبعد فكرة أنّ طهران هي التي تدير “حماس” عن طريق التحكّم بها عن بعد. يمكن للحرس الثوري الإيراني توجيه “حماس” وتزويدها بالأسلحة. لكنّ “حماس” بحاجة إلى تقييد دائرة من يعرف عن هذه العملية وما كانت تخطّط له. ومن شأن إضافة الإيرانيين إلى هذا المزيج أن يفتح الدائرة أمام اختراق الاستخبارات”.
هذه خلاصة حوار أجراه رئيس تحرير مجلّة “فورين بوليسي” رافي أغراوال مع الخبير الدبلوماسي والمفوّض السابق لشؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأميركية آرون ديفيد ميلر حول “طوفان الأقصى” والحرب الإسرائيلية على غزّة.
يدعو ميلر إلى “التفاوض باعتباره الحلّ الوحيد حالياً لوضع حدّ للحلقة الدموية المفرغة في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.. والحلّ الوحيد النهائي هو ما يسمّى الكونفدرالية أو حلّ الدولتين بحيث ينشأ نظامان سياسيان يرغبان في العيش بعضهما مع بعض في سلام وأمن. لكنّنا نفتقر إلى عناصر أربعة أساسية للتوصّل إلى هذا الحلّ: أوّلها وأهمّها وجود قادة أسياد، وليسوا سجناء في أيديولوجيّاتهم وسياساتهم”.
“هناك تنسيق بين إيران و”حماس”، وأهدافهما في العديد من القضايا ربّما متطابقة. لكن أستبعد فكرة أنّ طهران هي التي تدير “حماس” عن طريق التحكّم بها عن بعد
ليس 11 أيلول.. ولا سادات اليوم
يرفض ميلر تسمية “11 أيلول الإسرائيلي”، ويفضّل مقارنتها بحرب أكتوبر 1973 “التي كانت بمنزلة فشل استخباراتي هائل، لكنّها كانت إلى حدّ كبير حرباً على الحدود مع مشاركة ضئيلة أو معدومة من السكّان المدنيين. كان لدى الرئيس المصري آنذاك، أنور السادات، استراتيجية واضحة لإلحاق هزيمة عسكرية محدودة ومحدّدة بإسرائيل من خلال إقامة وجود مصري على الضفة الشرقية لقناة السويس، ثمّ محاولة إيجاد طريقة لتحويل هذا الوجود، بمساعدة من الولايات المتحدة، إلى اتفاقيات فكّ ارتباط تمهّد الطريق لمعاهدة سلام مصرية إسرائيلية. لكنّ ما حدث خلال الأيام الأربعة الماضية مختلف تماماً. إنّه جزء لا يتجزّأ من المواجهة الطويلة بين إسرائيل و”حماس”، وهو أكبر هجوم على المدنيين في تاريخ دولة إسرائيل. وليست استراتيجية “حماس” مركّزة أو متماسكة مثل استراتيجية السادات”.
كلفة التخلّي عن الذكاء البشريّ
بحكم خبرته الطويلة في تقديم الاستشارة السياسية لستّة وزراء خارجية أميركيين في مجال المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية ومتابعته للسياسات التي تنتهجها إسرائيل، ورئاسته عدداً من مراكز الأبحاث في العقود الماضية، يخلص ميلر إلى أنّ ما جرى “ليس فشلاً استخباراتياً فقط، بل فشل عملياتي أيضاً”.
ويسأل: “هل ركّز الإسرائيليون كثيراً على الاستخبارات التقنية؟ ماذا عن الذكاء البشري؟ لقد أخطأ الإسرائيليون تماماً في تقدير قدرات “حماس” ودوافعها. ولأنّ رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو كان قلقاً للغاية ومتلهّفاً للتوصّل إلى صفقة إسرائيلية سعودية، أراد الهدوء في غزّة وكان على استعداد للإفراج عن المزيد من العمّال الفلسطينيين أو السماح لهم بدخول إسرائيل. كلّ هذا ركّز على “حماس” ككيان حاكم وليس كقوّة قادرة على تنفيذ عملية كهذه كانت جريئة وجذرية للغاية. وسيتطلّب الأمر تفسيراً لسبب وجود عدد قليل جداً من الإسرائيليين المنتشرين في غزّة. ومن الواضح أنّ الإسرائيليين ركّزوا على الضفة الغربية. لقد توصّلوا إلى قبول قدر معيّن من الرضا عن النفس على الحدود. و”حماس” قامت بعملها. في الأسابيع التي سبقت ذلك، كانت هناك تظاهرات على خطّ الحدود، ومن الواضح أنّهم قاموا بعملية استطلاع لتحديد نقاط الضعف”.
العدد الكبير من القتلى الإسرائيليين والأسرى الذين يقاربون 150 هو ما يقلق ميلر “لأنّ قضية إطلاق الأسرى سيكون لها صدى عميق في الشارع الفلسطيني ومن شأنها أن تعزّز هيبة “حماس” بشكل كبير. فهل الإسرائيليون مستعدّون لدفع هذا الثمن الآن؟”.
هل يشارك الحزب في هذه الحرب؟
“الحزب متردّد وحساباته غامضة وسيعتمد ردّه على حجم الردّ الإسرائيلي في غزّة”، بحسب ميلر، لأنّه “منظمة لبنانية وليس شركة تابعة مملوكة بالكامل لطهران والحرس الثوري الإسلامي الإيراني، على الرغم من العلاقات الوثيقة بين الاثنين. وهو لم يقرّر بعد”. لكنّه يشير إلى “التفوّق في التكتيكات والتدريب والأسلحة التي راكمها الحزب منذ عام 2006”.
أمّا الهدف المركزي لـ”حماس”، بالإضافة إلى مبادلة الرهائن بالسجناء، فهو إلحاق مستوى من الألم والرعب يعطّل الحياة الطبيعية الإسرائيلية بطريقة لم تفعلها أيّ جماعة فلسطينية أخرى على الإطلاق في عقود من الاشتباك، حتى في أوائل السبعينيات وأثناء عمليات اختطاف الطائرات، فضلاً عن إعادة التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية في أذهان المنطقة.
يدعو ميلر إلى “التفاوض باعتباره الحلّ الوحيد حالياً لوضع حدّ للحلقة الدموية المفرغة في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.. والحلّ الوحيد النهائي هو ما يسمّى الكونفدرالية أو حلّ الدولتين
ما هي خيارات بايدن؟
عن ردّ فعل الإدارة الأميركية، يؤطّر ميلر رأيه بإدارة بايدن في ثلاثة مفاهيم:
– الأوّل هو شخصية الرئيس. النموذج الرئاسي الذي يجب أن نفهمه هنا ليس باراك أوباما، بل بيل كلينتون. جو بايدن وكلينتون، على الرغم من أنّهما ينتميان إلى أجيال سياسية مختلفة، إلا أنّ لديهما وجهات نظر متشابهة للغاية عندما يتعلّق الأمر بإسرائيل. إنّ حبّ إسرائيل، ودعم أمن إسرائيل، ودعم فكرة إسرائيل، كلّها أمور متأصّلة بعمق في الحمض النووي العاطفي والسياسي لكلّ منهما.
– الثاني هو السياسة. لقد أثبت الحزب الجمهوري نفسه كحزب مرجعي في هذا المجال. وفي حين أنّ ما يحدث في إسرائيل لن يلعب دوراً رئيسياً في الحملة الانتخابية الأميركية لعام 2024، فإنّ الحقيقة هي أنّ هذه الإدارة لا تستطيع السماح للجمهوريين بتصويرها على أنّها معادية لإسرائيل.
– الثالث يتعلّق بسياسة الإدارة. هناك مشكلتان تحتاج الإدارة إلى إيجاد طريقة لإدارتهما:
1- أزمة: ماذا يجب أن نفعل بشأن البرنامج النووي الإيراني؟
2- فرصة: كيف نتعامل مع إمكانية التطبيع الإسرائيلي السعودي، وهو الأمر الذي تهتمّ به الإدارة بشدّة؟
نتانياهو هو محور هذين السؤالين.
لكلّ هذه الأسباب، اتّخذت الإدارة قراراً استراتيجياً بمنح الإسرائيليين الوقت والمساحة والدعم للقيام بما يعتزمون القيام به. فالقتال العلني مع رئيس وزراء إسرائيلي أمر محرج وفوضوي وقد يكون مكلفاً سياسياً. ما عليك سوى إلقاء نظرة على كيفية تعامل الإدارة مع الحكومة الأكثر يمينية وتطرّفاً وأصولية في تاريخ دولة إسرائيل على مدى العقد الماضي. إذا كانت مستعدّة للقيام بذلك قبل 7 تشرين الأوّل، فهي بالتأكيد قادرة على القيام بذلك الآن.
“الحزب متردّد وحساباته غامضة وسيعتمد ردّه على حجم الردّ الإسرائيلي في غزّة”، بحسب ميلر
يذكّر ميلر أنّه بعد 7 تشرين الأول أدرجت إدارة بايدن في حساباتها احتمال أن يتجاوز ما ستراه في غزّة أيّ شيء فعله الإسرائيليون في الماضي: “فالتأكيد هو على أهميّة أمن إسرائيل. وفي بيان الرئيس وتصريحاته في أعقاب الهجوم، لا ذكر لضبط النفس، ولا للتهدئة، ولا لإيجاد طريقة لنزع السلاح، في محاولة لخلق مسار سياسي جديد. ومع الكشف عن وقائع ما حدث في جنوب إسرائيل، ستجد الإدارة نفسها في وضع مربك. سيتعيّن عليها التنقّل بين حزب جمهوري يريدها أن تدعم إسرائيل بشكل أعمى وحزب ديمقراطي منقسم، يريد البعض منه فرض المساءلة والسؤال عن التكاليف. من مصلحة الإدارة إنهاء كلّ ما يحدث في أسرع وقت. نحن في وقت سيتمّ فيه اختبار النفوذ والقوّة المحدودة بالفعل للولايات المتحدة على الرغم من مقتل تسعة أميركيين واحتمال وجود أميركيين مزدوجي الجنسية كرهائن. الإدارة، على الأقلّ في الوقت الحالي ستحذو حذو إسرائيل”.
هل عمليّة السلام ممكنة بعد اليوم؟
أخيراً هل من إمكانية لانبثاق عملية سلام نتيجة لهذا الهجوم؟
لا ينفي ولا يؤكّد: “ليس معقولاً أخلاقياً أن أقول لا، وأن أتخلّى عن الأمل في أنّ أيّ أزمة، مهما كانت عنيفة أو دموية، قد نجد طريقاً للخروج منها. حالياً، الإسرائيليون والفلسطينيون في طريق مسدود استراتيجياً. لقد ظلّوا محاصرين هناك منذ جهودنا خلال إدارة كلينتون للجمع بين رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك وزعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات وكلينتون معاً في كامب ديفيد، وهو الأمر الذي ساعدتُ في التخطيط له، وكان غير حكيم وغير مدروس وأتى في توقيت سيّئ. العناصر الأربعة المطلوبة لخلق مفاوضات تفضي إلى حلّ دائم وعادل للإسرائيليين والفلسطينيين لم تكن موجودة على الإطلاق:
– الأوّل: هم القادة الذين هم أسياد، وليسوا سجناء لأيديولوجيّاتهم وسياساتهم. هذه حاجة في أيّ وقت يحدث تقدّم في هذا الصراع، سواء كان ذلك مع السادات – بيغن أو رابين -عرفات أو رابين – حسين. لا أتحدّث هنا عن اتفاقيات أبراهام، بل عن متطلّبات منطقة الصراع والصراعات التي غمرتها الدماء والصدمات والجراح التاريخية. أنت بحاجة إلى قادة كبار. والآن ليسوا متوافرين.
– الثاني: أنت بحاجة إلى الشعور بالملكية. التعبير الشهير: “في تاريخ العالم، لم يغسل أحد سيارة مستأجَرة على الإطلاق”، هو جزء عميق من الفلسفة الشخصية. لا يغسل الناس السيارات المستأجَرة لأنّهم يهتمّون فقط بما يملكونه. لقد جرت كلّ المفاوضات تقريباً من دون مشاركة الولايات المتحدة، سواء بين مصر وإسرائيل، أو إسرائيل والأردن، لعقود من الزمن، وبالتأكيد اتفاقية أوسلو في مراحلها الأوّلية. ليس لدينا هذا الشعور بالملكية الآن. الملكية مدفوعة بالألم واحتمالات الربح.
إقرأ أيضاً: ديفيد إغناطيوس: الثقة المفرطة والغطرسة سبب هزيمة إسرائيل
– الثالث: أنت بحاجة إلى وساطة فعّالة. وعلى الرغم من تجاوزات أو عيوب الولايات المتحدة، وتحيّزاتنا، ومعاملتنا التفضيلية لطرف على حساب الآخر، إلا أنّه ما يزال لدينا القدرة والإرادة والمهارة للقيام بذلك.
– الرابع: أنت بحاجة إلى حالة نهائية يمكن الاتفاق عليها بين الإسرائيليين والفلسطينيين. الحكمة التقليدية هي أنّ حلّ الدولتين قد ذهب مع الريح. ويكاد يكون من المستحيل إحياؤه. لكنّ الفصل من خلال التفاوض هو الحلّ الوحيد الذي يعالج المشكلة الديمغرافية والسياسية والنفسية والتاريخية المتمثّلة في تداخل الفضاء المقدّس الموجود في القدس على جبل الهيكل”.
يخلص ميلر إلى أنّ “الحلّ الوحيد هو كونفدرالية نسمّيها دولتين. ويكون الفصل عن طريق التفاوض. وينشأ نظامان سياسيان يرغبان في العيش بعضهما مع بعض في سلام وأمن”. ويختم: “يبدو هذا مستحيلًا في الوقت الحالي. لكنّه المطلوب”.
لقراءة النص الأصلي اضغط هنا