لماذا “طوفان” الغرب في دعم إسرائيل؟

مدة القراءة 7 د


تشبه اللحظات الأولى لموقف الدول الغربية حيال ما جرى في غلاف غزّة يوم 7 تشرين الأول 2023 الموقف الذي سارعت كلّ العواصم الغربية إلى اتّخاذه حيال ما جرى في 11 أيلول 2001. تدافعت تلك العواصم إلى شجب عملية “حماس” وإدانتها والتعبير عن التضامن الكامل مع إسرائيل بالمستوى نفسه من التوتّر الذي شاب مواقفها في إدانة فعلة تنظيم القاعدة قبل 22 عاماً وإظهار فائق الدعم للولايات المتحدة والتضامن معها.

لم يكن الموقف الغربي مفاجئاً بل كان متوقّعاً وتقليدياً ولم يتغيّر على مدى عمر دولة إسرائيل. قد حدث أن تمرّد الجنرال والزعيم الفرنسي التاريخي شارل ديغول وأوقف بيع فرنسا أسلحة لإسرائيل، وقد حدث أن وجّه الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران صفعة لها حين استقبل الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في باريس، في حين اتّخذت دول أوروبية، حتى على مستوى الاتحاد الأوروبي، مواقف “متفهّمة” للحقّ الفلسطيني داعمة ماليّاً للسلطة الوطنية الفلسطينية، غير أنّ كلّ ذلك جرى على قاعدةٍ ثابتةٍ لم تتغيّر داعمةٍ لإسرائيل و”حقّها في الدفاع عن نفسها”.

لا يمكن للعالم أن يدير صراع الأمم وفق أبجدية بنيامين نتانياهو وصحبه. يمثّل الشرق الأوسط منطقة حيوية للعالم أجمع، ولذلك تحرص دول العالم الغربي وروسيا والصين والهند وغيرها على تجنّب وقوعها في عبث وفوضى

إسرائيل وعاء يهوديّ مسيحيّ

لا تتعلّق المسألة فقط بحسابات جيوستراتيجية تقيسها الدول في علاقاتها البينيّة. فإسرائيل هي جزء من الوعاء الثقافي اليهودي المسيحي الذي تقوم داخله القيم الغربية وأعمدة منظومتها. وإسرائيل هي جزء من الفضاء الغربي في العالم، ولطالما اعتبرتها الأدبيات الأيديولوجية العربية رأس جسر غربي في الشرق الأوسط.

غير أنّ التميّز الإسرائيلي في العقل الغربي الحديث بعد الحرب العالمية الثانية ينهل وجاهته ممّا راكمته قِيَم ما بعد هذه الحرب من حجج تبررّ النصر والقضاء على النازية والفاشية. يفسّر الأمر مسارعة الاتحاد السوفيتي، قبل الولايات المتحدة وكثير من الدول الأوروبية، إلى الاعتراف بإسرائيل بعد ساعات من إعلان قيام الدولة في 15 أيار 1948. وحين تفاقم الكشف عن “الهولوكوست” اليهودي خلال السنوات التي تلت تلك الحرب ارتبط دعم إسرائيل بدعم اليهود والتضامن مع ضحايا المحرقة وجعل الأمر قانوناً لدى كلّ الدول الغربية لا يحتمل شكوكاً أو مراجعة.

اللافت أنّ الرأي العامّ الغربي تفاعل في بعض المراحل مع السرديّة الفلسطينية المضادّة لسرديّة إسرائيل ومبرّرات احتلالها. وسجّل الرأي العامّ، الأوروبي خصوصاً، انقلاباً لمصلحة الفلسطينيين في مرحلة “الانتفاضة” الأولى أواخر الثمانينيات التي عُرفت حينها بانتفاضة “أطفال الحجارة”. وقد شهدت الجامعات الغربية موجة من المهرجانات والتظاهرات، وشهدت البرلمانات سجالات مناصِرة للفلسطينيين وداعمة لحقّهم بالتخلّص من الاحتلال وإقامة دولتهم المستقلّة مستندة إلى قرارات أممية تدين الاحتلال وتوفّر أرضية لذلك. ومع ذلك أثبت هذا الرأي أنّه غير قادر على التخلّي عمّا هو ثابت متجذّر في العلاقة مع إسرائيل كلّما تغيّرت أشكال المقاومة أو زُعم ذلك.

يندرج الموقف الغربي من عملية “طوفان الأقصى” في سياق تاريخي قِيَمي عميق وفي سياق الموقف من الإرهاب عامة، ومِن كلّ مَن يهدّد إسرائيل بـ”هولوكوست” جديد مزعوم خاصة. ولئن تعبّر الهياكل الرسمية عن الموقف المتماهي مع الرواية الرسمية الإسرائيلية للحدث وتُظهر شرائح اجتماعية تضامناً آليّاً مع “الإسرائيلي الضحيّة”، غير أنّ الأمر لا يعكس بلادةً نهائية في مقاربة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وكأنّ المطلوب مواكبة الصدمة الإسرائيلية واستيعابها من دون الإفراط في الإبحار داخل السفينة الإسرائيلية.

يجب استنتاج أنّ المسألة الفلسطينية (خصوصاً بسبب طابعها الإسرائيلي) تبقى مسألة غربية، وخصوصاً أميركية، وفق التقدير الشهير للرئيس المصري الراحل أنور السادات

خصوصيّة الموقف الألمانيّ

بدت ألمانيا مبالِغة في انفعالها في الموقف الداعم لإسرائيل والملمّح إلى العزم على وقف دعم الفلسطينيين. وكان يجب دائما تفهّم خصوصية الحالة الألمانية ذات الماضي النازي الهتلري الذي ارتكب المحرقة لتفسير إفراط برلين في التعبير عن فائض مشاعر وغضب.

خرجت من داخل الاتحاد الأوروبي دعوات من مثل تلك التي أطلقها أوليفر فارهيلي، مفوّض “الجوار والتوسّع”، وهو هنغاري مقرّب من رئيس الوزراء فيكتور أوربان،  طالبت بمعاقبة الفلسطينيين على “إرهاب” يقول الأوروبيون أنفسهم إنّ قلّة منهم قد ارتكبته. وكان على إسبانيا وفرنسا أوّلاً أن تصوّبا هذا الانحراف وترفضا وقف المساعدات الأوروبية للفلسطينيين، فتراجع الاتحاد الأوروبي عن قراره في اليوم نفسه، وأعلن “مراجعة هذه المساعدات” فقط.

بدت المبالغة أيضاً في الموقف الأميركي. فإضافة إلى كلمة الرئيس جو بايدن الحاسمة الحازمة في التضامن مع إسرائيل، دفعت واشنطن بتعزيزات عسكرية بحرية نحو المنطقة، فأرسلت أكبر حاملتَي طائرات، وعجّلت في إرسال الذخائر إلى إسرائيل وكأنّها تتعرّض لحرب كونية وجودية. كلّ ذلك من أجل تحذير إيران والقول “إيّاكم”، التي قالها بايدن علناً لإيران.

لقد دأبنا منذ قيام دولة إسرائيل على اعتبارها عصا غربية غليظة أو شرطياً أميركياً في المنطقة، ورأينا أنّها تملك نفوذاً على قرار واشنطن نفسها، لكنّ اندفاع الولايات المتحدة إلى الدفاع عن إسرائيل فضح استنتاجاً أميركياً باقتراب، أو على الأقلّ بالخوف من انهيار أسطورة بات واجباً ترميمها.

سيسقط هذا الدعم كلّما تقدّم الوقت. لا يمكن للعالم أن يدير صراع الأمم وفق أبجدية بنيامين نتانياهو وصحبه. يمثّل الشرق الأوسط منطقة حيوية للعالم أجمع، ولذلك تحرص دول العالم الغربي وروسيا والصين والهند وغيرها على تجنّب وقوعها في عبث وفوضى.

الصوت الفلسطينيّ يتقدّم

يتقدّم الصوت المدافع عن الفلسطينيين بصعوبة داخل وسائل الإعلام الغربية (على الرغم من الهستيريا التي أصابتها) بحيث تتناقله وسائط الإعلام الاجتماعي ويتحوّل إلى “ترند” في العالم وداخل الدول الغربية خصوصاً. لا ننسى أنّ موقف بايدن المتضامن مع إسرائيل أتى بعد قطيعة مع نتانياهو وحكومته وبعد مواقف أصدرتها واشنطن ضدّ قوانين إصلاح المحكمة العليا في إسرائيل، وهي مواقف ارتقت إلى مستوى غير مسبوق من التدخّل العلني في شؤون إسرائيل.

إقرأ أيضاً: لماذا نفت إيران علاقتها بـ”طوفان القدس”؟

والحال هذه يجب استنتاج أنّ المسألة الفلسطينية (خصوصاً بسبب طابعها الإسرائيلي) تبقى مسألة غربية، وخصوصاً أميركية، وفق التقدير الشهير للرئيس المصري الراحل أنور السادات. حتى روسيا والصين تتعاملان مع قضية فلسطين تعامل ردّ الفعل لا الفعل، ولم يثبت يوماً أنّها على الرادارات الأساسية لسياستهما الخارجية. ولأنّ الأمر كذلك فإنّ الغرب يكشف عن خواء في تعامله مع لحظة شرق أوسطية دراماتيكية، وظهر بليداً عاجزاً تغيب عنه رجالات سياسية قيادية كبيرة قادرة على اجتراح أفكار ومواقف تُسقط عنه هذا الجفاف وهذا السقوط الشعبوي السهل. وبدا هذا الغرب أكثر إرباكاً من أصوات إسرائيلية (جدعون ليفي وغيره) لم تتردّد في تحميل إسرائيل وحكوماتها واحتلالها المصير الذي تعيشه. وبدا الغرب عارياً أمام السؤال المنطقي: لماذا تدعمون أوكرانيا في حربها ضدّ “الاحتلال” الروسي المُختلَف عليه بعض الشيء، ولا تدعمون الفلسطينيين ضدّ الاحتلال الإسرائيلي الواضح منذ 75 عاماً؟

إذا ما استفادت حكومة إسرائيل من التضامن الانفعالي الغربي العامّ مع توجّهها إلى القيام بضربات “إبادة” بحقّ الغزّيّين الذين اعتبرهم وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت “حيوانات بشرية”، فإنّ واشنطن وحلفاءها لن يغطّوا كلّ ما تخطّط له آلة الحرب الإسرائيلية ضدّ القطاع. وقد لا يتعلّق التحفّظ الغربي بأسباب أخلاقية بقدر علاقته بمصالح الغرب في الشرق الأوسط وما تُعدّه واشنطن في المنطقة والعالم في سياق صراعها الاستراتيجي مع الصين. وإذا ما وعد نتانياهو الإسرائيليين بردّ مزلزل يغيّر وجه الشرق الأوسط، فإنّ أموراً كثيرة تغيّرت وستتغيّر بعد 7 تشرين الأول قد يكون نتانياهو نفسه أوّل من سيدفع ثمنها.

لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@

مواضيع ذات صلة

من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طُويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا، بل طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة، واستُخدمت شعاراته…

سوريا: عمامة المفتي تُسقط المشروع الإيرانيّ

عودة منصب المفتي العام للجمهورية السوريّة توازي بأهمّيتها سقوط نظام بشار الأسد. هو القرار الأوّل الذي يكرّس هذا السقوط، ليس للنظام وحسب، بل أيضاً للمشروع…

فرنسا على خط الشام: وساطة مع الأكراد ومؤتمر دعم في باريس

أنهت فرنسا فترة القطيعة التي استمرّت اثنتي عشرة سنة، مع وصول البعثة الفرنسية إلى العاصمة السورية، دمشق. رفعت العلم الفرنسي فوق مبنى سفارتها. لم تتأخر…

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…