يمكن اعتبار المرحلة الدقيقة التي يمرّ فيها الشرق الأوسط بين أكثر المراحل خطورة في تاريخه الحديث، أي منذ نشوء الكيانات السياسية الحالية التي وُلدت من رحم اتفاق سايكس – بيكو (1916). في المرحلة الراهنة التي بدأت مع الحرب التي شنّتها “حماس” انطلاقاً من قطاع غزّة، ملحقةً هزيمة لا سابق لها بإسرائيل، لم يعد مستبعداً رسم خريطة سياسيّة جديدة للمنطقة.
فتحت هذه الحرب الأبواب على كلّ الاحتمالات، خصوصاً أنّها أظهرت أنّ إسرائيل لم تعد إسرائيل وأنّ قوّة الردع التي كانت تمتلكها لم تعد موجودة. باتت إسرائيل في حاجة أكثر من أيّ وقت إلى دعم أميركي بغية استعادة قوّة الردع التي هي في أساس وجودها. من هذا المنطلق، لا خيار أمام الحكومة الإسرائيليّة، بغضّ النظر عن الشكل الذي ستتّخذه في أعقاب المشاركة المحتملة للمعارضة فيها، سوى اجتياح غزّة بكلّ ما سيؤدّي إليه ذلك من مآسٍ إنسانيّة.
يمكن اعتبار المرحلة الدقيقة التي يمرّ فيها الشرق الأوسط بين أكثر المراحل خطورة في تاريخه الحديث، أي منذ نشوء الكيانات السياسية الحالية التي وُلدت من رحم اتفاق سايكس – بيكو (1916)
سيكون هناك اجتياح لغزّة، أيّاً يكن الخطر الذي يشكّله هذا الاجتياح على الأسرى الإسرائيليين الذين تحتجزهم “حماس”. لا خيار آخر أمام إسرائيل في حال كانت تريد تفادي الانهيار الكامل على يد “حماس”.
ماذا بعد الاجتياح البرّي؟
يُفترض التفكير من الآن في مرحلة ما بعد الاجتياح البرّيّ الإسرائيلي لغزّة وما سيترتّب عليه بالنسبة لأهل القطاع، الذين يتجاوز عددهم مليونين، أوّلاً. هؤلاء يعيشون في إحدى أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، نظراً إلى أنّ مساحة غزّة لا تتجاوز 365 كيلومتراً مربّعاً. أسئلة عدّة تطرح نفسها، بما في ذلك سؤال عن مصير “حماس” وثمن الانتصار الذي حقّقته. هل تستطيع “حماس” قبض أيّ ثمن سياسي لهذا الانتصار على الرغم من كلّ الخسائر التي ستلحق بالفلسطينيين من أهل غزّة… أم الربح الصافي سيذهب إلى “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران وحدها؟
ما يزال مستبعَداً دفع إيران ثمن الهزيمة التي لحقت بإسرائيل. يعود ذلك إلى أنّ الإدارة الأميركيّة ما تزال بعيدة كلّ البعد عن توجيه أيّ لوم إلى طهران. كما جرت العادة، في أحيان كثيرة، ترفض الولايات المتحدة رؤية الواقع، بل تتفادى عن سابق تصوّر وتصميم التعاطي معه. تفضّل الهرب منه، تماماً كما حدث صيف عام 2013 عندما هدّد باراك أوباما، الرئيس الأميركي وقتذاك، بشار الأسد في حال استخدام السلاح الكيميائي في حربه على الشعب السوري من منطلق أنّ ذلك “خطّ أحمر”. استخدم بشّار الكيميائي ولم يحدث شيء. صار أوباما يرى كلّ الألوان الموجودة في هذا العالم باستثناء اللون الأحمر. ما يزال الشعب السوري يدفع، إلى الآن، ثمن تلك السياسة الأميركيّة التي تتّسم بالسذاجة من جهة، والرغبة في عدم استفزاز إيران من جهة أخرى.
من الآن، يمكن التكهّن بأنّ الشعب الفلسطيني سيدفع غالياً ثمن انتصار حقّقته حماس الإيرانية على إسرائيل. تماماً مثلما دفع الشعب السوري ثمن رغبة إدارة أوباما في عدم استفزاز إيران في وقت كانت تُجري معها مفاوضات سرّيّة في شأن ملفّها النووي.
في غياب “السياسة” الإسرائيلية
غيّرت حرب غزّة إسرائيل. كشفت أن لا وجود لشيء اسمه سياسة إسرائيلية. كلّ ما هناك مجموعة من الوزراء لا همّ لهم سوى استكمال حملة الاستيطان في الضفّة الغربية بهدف تكريس الاحتلال، فيما لا همّ آخر لدى بنيامين نتانياهو، رئيس الحكومة، غير إجراء الإصلاحات القضائية بما يحول دون ملاحقته قضائياً في قضايا فساد. في مواجهة إسرائيل، سياسياً وليس عسكرياً، ليس لدى “حماس” سوى شعارات تطلقها. شعارات من نوع “تحرير فلسطين من البحر إلى النهر… أو من النهر إلى البحر”، لا فارق. أين الواقعية في طرح “حماس” التي ألغت وجود السلطة الوطنيّة وأجلستها في مقاعد المتفرّجين؟
بغضّ النظر عن كلّ مآسي الحرب الدائرة سيأتي يوم، ما يزال للأسف بعيداً، يتأكّد فيه أنّ إسرائيل في حاجة إلى من يمارس السياسة بدل الاستيطان والاحتلال والعنصرية، وأنّ الشعب الفلسطيني يستأهل قيادات أفضل من قيادات “حماس”
تتغيّر الخريطة السياسية في الشرق الأوسط سريعاً في ظلّ حرب وحشية قرّرت إسرائيل خوضها مع تركيز على قطاع غزّة في الوقت الحاضر. أيّ إسرائيل سنرى مع سدل الستار على حرب غزّة التي يبدو أنّها ستكون حرباً طويلة؟ ما مصير “حماس”؟ كيف ستستغلّ إيران انتصارها في حرب غزّة، توسّعت هذه الحرب أم لم تتوسّع؟ بكلام أوضح ما الذي ستفعله بهذا الانتصار الذي يشبه انتصارها في حرب صيف عام 2006 على لبنان… ولا يشبهه؟ لا يشبهه لأنّ غزّة مختلفة من نواحٍ عدّة عن لبنان.
لبنان ضحيّة الحرب
الأمر الأكيد أنّ لبنان سيكون من ضحايا الحرب، انفجر الوضع في جنوبه أم لم ينفجر. يعود ذلك إلى أنّ حرب غزّة كشفت عمق الفراغ اللبناني على كلّ المستويات. لا وجود لأيّ سلطة لبنانية تمتلك القدرة على اتّخاذ أيّ مبادرة من أيّ نوع بعدما قرّر الحزب الاستحواذ على كلّ السلطات والقرارات، بما في ذلك قرار الحرب والسلم. لا وجود لمصلحة لبنانية يدافع عنها الحزب بمقدار ما أنّه جزء لا يتجزّأ من المشروع التوسّعي الإيراني في المنطقة. ليس لبنان في إطار هذا المشروع سوى أداة من الأدوات الإيرانيّة في الشرق الأوسط والمنطقة كلّها.
بعد حرب غزّة ليس كما قبلها، إذ ستكون هناك خريطة سياسية جديدة يمكن أن تمهّد لخريطة جغرافية جديدة. لا مفرّ في مرحلة معيّنة من مثل هذه الخريطة التي سيكون فيها مكان لدولة فلسطينية يُتّفق في شأنها بين إسرائيل الجديدة، إسرائيل ما بعد حرب غزّة، وقيادات فلسطينية من طينة مختلفة عن طينة قيادات “حماس”… أو القيادات الحالية للسلطة الوطنيّة.
إقرأ أيضاً: حسابات إيران المعقّدة: خسارة راية فلسطين أم بايدن؟
في النهاية، بغضّ النظر عن كلّ مآسي الحرب الدائرة سيأتي يوم، ما يزال للأسف بعيداً، يتأكّد فيه أنّ إسرائيل في حاجة إلى من يمارس السياسة بدل الاستيطان والاحتلال والعنصرية، وأنّ الشعب الفلسطيني يستأهل قيادات أفضل من قيادات “حماس” وأفضل من الذين يديرون أمور الضفّة الغربيّة من رام الله الآن.