رونالدو… بمواجهة قاسم سليماني

مدة القراءة 8 د


يشكّل قاسم سليماني رمزاً لتمدّد نظام الملالي خارج الرقعة الجغرافية الإيرانية، وأذرعه الطويلة في صنعاء وبغداد ودمشق وبيروت. ومنذ قتلته مسيَّرة أميركية على تخوم عاصمة الخلافة العباسية، لا ينفكّ العقل السياسي للملالي عن استحضاره كأسطورة عبّدت الطريق نحو القدس وحرّرت الشعوب على طريقها من ربقة الاستعمار تارة، أو لإرسال رسائل سياسية عميقة تذكّر أولي الأمر والمراد تذكيرهم بالأذرع الإيرانية الطويلة والمؤذية المتوغّلة في أراضي العرب أطواراً. والحالة الثانية هي الأكثر استخداماً، حيث صارت صورة سليماني أقرب إلى حامل الرسائل المفخّخة ورسول التهديدات المبطّنة. حتّى بعد “طوفان الأقصى”، كتب كثيرون أنّ هذا من مخطّطات سليماني لـ”تحرير القدس”.

تمثال سليماني في ميادين الكرة

آخر الرسائل كانت عبر مباراة فريق الاتحاد السعودي مع مضيفه سيباهان الإيراني ضمن بطولة دوري أبطال آسيا. لم تُجرَ هذه المباراة بسبب تمثال قاسم سليماني عند مدخل ملعب “نقش جهان”، مباشرة قبالة النفق الذي يدخل منه اللاعبون.

كان يمكن للجانب الإيراني تغيير ملعب المباراة، فهو يدرك ما تشكّله صورة سليماني أو تمثاله من رمزية سياسية يرفضها العرب وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية. لا سيما أن وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان أصرّ على تغيير القاعة حيث سيجرى المؤتمر الصحافي المشترك مع نظيره الإيراني إبّان زيارته التاريخية لطهران في حزيران الفائت بسبب وجود صورة سليماني خلف المنبر.

يشكّل قاسم سليماني رمزاً لتمدّد نظام الملالي خارج الرقعة الجغرافية الإيرانية، وأذرعه الطويلة في صنعاء وبغداد ودمشق وبيروت

لكنّ نظام الملالي تقصّد إرسال رسالة سياسية بنكهة كروية للسعودية، خاصة أنّه على بيّنة بحجم الاهتمام الإعلامي العربي والدولي بمباريات الفرق السعودية الكبرى، بعدما جلبت أبرز نجوم الساحرة المستديرة إلى الدوري المحلي، وعلى رأسهم كريستيانو رونالدو.

بالطبع، رفضت إدارة فريق الاتحاد السعودي خوض المباراة تحت ظلال تمثال سليماني، واعترضت أمام مراقبي الاتحاد الآسيوي للّعبة، الذي قرّر إلغاء المباراة بسبب “ظروف غير متوقّعة”، حسب بيانه الرسمي. لا تقتصر هذه الظروف على تمثال سليماني كواحد من الرموز السياسية التي يحرّم الاتحاد الدولي للّعبة استخدامها، بل تشمل أيضاً قذف الجماهير الإيرانية للتمثال نفسه بزجاجات المياه وما تيسّر لها اعتراضاً على تسييس المباراة مع هتافات مندّدة بالمرشد علي خامنئي تصفه بـ”الديكتاتور”.

بعدها بيومين، خاض فريق الهلال السعودي الذي يضمّ النجم البرازيلي نيمار مباراة في إيران أيضاً بوجه فريق نساجي، ضمن البطولة نفسها. لم يظهر تمثال سليماني، ولا أيّ شيء آخر يرمز إلى الأذرع الإيرانية الطويلة. لا بل إنّ وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان أكّد بنفسه أمام وسائل الإعلام أنّ أزمة مباراة الاتحاد وسيباهان قد حُلّت عبر التواصل مع الجانب السعودي وتحديد موعد جديد لها في إيران. لكنّه كان يتساءل في سرّه: “هل وصلت رسالة تمثال سليماني؟”.

السجّادة الفارسيّة

قبل ذلك بأسبوعين، استضاف فريق إيراني آخر هو برسبوليس فريق النصر السعودي الذي يضمّ واحداً من أساطير الكرة البرتغالي كريستيانو رونالدو صاحب الجماهيرية الجارفة. وكان لافتاً حجم الاستقبال الجماهيري الحاشد الذي حظي به الفريق السعودي، ورونالدو بالتحديد، حيث احتشدت الجماهير قرب المطار، وعلى الطرقات وأمام الفندق حيث نزل رونالدو وزملاؤه. كما ازدانت شوارع طهران بلافتات ترحيبية كُتب عليها “أهلاً وسهلاً” باللغة العربية. فضلاً عن تقديم مسؤولي برسبوليس لرونالدو الفائز بالكرة الذهبية 5 مرّات كأفضل لاعب في العالم، ولزميله في الفريق النجم السنغالي ساديو ماني، هديّةً هي عبارة عن سجّادة عجمية فاخرة من نوع الحرير مصنوعة يدوياً. وحسب وسائل الإعلام المقرّبة من النظام الإيراني، فإنّ هذه السجّادة الفاخرة التي تُصنع في قم، المدينة المقدّسة، تُقدّم كهديّة للضيوف المهمّين مثل الزعماء ورؤساء الدول في تقليد فارسي قديم.

هنا لا بدّ من الوقوف عند تفصيل صغير لكن مهمّ ويعبّر عن الأرضية التي تميد تحت أقدام نظام الملالي. برسبوليس هو أحد أشهر الفرق الإيرانية وأكثرها جماهيرية. أُسّس عام 1963، وجرى تغيير اسمه إلى بيروزي غداة قيام نظام ولاية الفقيه وبطلب من أركانه، لكنّ جماهير الفريق بقيت تستخدم الاسم القديم، وألزمت إدارته بإعادته إثر الثورة الخضراء عام 2009.

كانت تلك المباراة هي الأولى لفريق سعودي في إيران منذ عام 2016. فعقب اقتحام السفارة السعودية في طهران، والقنصلية السعودية في مشهد، اتخذ الاتحاد الآسيوي لكرة القدم قراراً بلعب الفرق السعودية والإيرانية والمنتخبات الوطنية لكلا البلدين للمباريات الآسيوية التي تجمعهما في ملاعب محايدة. إلا أنّ السلطات السعودية طلبت من الاتحاد الآسيوي عودة الأمور إلى سابق عهدها إثر الاتفاق السعودي – الإيراني برعاية الصين.

آخر الرسائل كانت عبر مباراة فريق الاتحاد السعودي مع مضيفه سيباهان الإيراني ضمن بطولة دوري أبطال آسيا. لم تُجرَ هذه المباراة بسبب تمثال قاسم سليماني عند مدخل ملعب “نقش جهان”

رسالة سليمانيّة تكميليّة

تُرى ما الذي حصل في الأسبوعين الفاصلين بين المباراة الأولى والمباراة الثانية ودفع بالإيرانيين إلى استخدام حامل الرسائل؟

إنّها مقابلة وليّ عهد المملكة العربية السعودية ورئيس وزرائها الأمير محمد بن سلمان مع قناة “فوكس نيوز” الأميركية.

ليس نحن من نقول أو نؤوِّل الرسالة، بل صحيفة كيهان الإيرانية المحافظة، التي يعيّن المرشد الإيراني علي خامنئي مسؤوليها. فقد هدّدت “كيهان” في افتتاحيّتها ليوم الأربعاء السعودية في حال “تطبيع علاقتها مع إسرائيل”، وعدّت ذلك “خيانة خاصة”. واستحضرت الصحيفة إرث قاسم سليماني وأذرعه الطويلة التي زرعها في عمق المجتمعات العربية لتوكيد الرسالة الكروية، قائلة إنّ “تنظيمات ثورية على مستوى المنطقة وتشكيل مجموعات مقاومة شعبية مثل عرين الأسود ستشكّل عامل إزعاج كبير ومستمرّ للدول التي تخون الإسلام والمسلمين بالتطبيع”.

 

وأضافت في تهديد صريح: “في دول المنطقة مثل العراق توجد مجموعات معروفة يمكنها استضافة وإسناد مجموعات مقاومة في بلد آخر، الأمر الذي يخلق وضعاً جديداً”، وهو ما يعني أنّها هدّدت السعودية بالحشد الشعبي العراقي، وبأنّه قادر على إنشاء ورعاية نماذج شبيهة في أرض المملكة المجاورة. كذلك فقد توعّدت “كيهان” المملكة بشنّ هجمات إلكترونية، ذلك أنّ “الهجمات السيبرانية التي غالباً ما تبقى مصادرها غير قابلة للاكتشاف تشكّل تهديداً أساسياً للتطبيع العربي الإسرائيلي”. وفي ذلك اعتراف صريح بمسؤولية نظام الملالي عن الهجمات السيبرانية على دول الخليج، السابقة منها واللاحقة.

سليماني بين “غيفارا” العرب و”رستم” الفرس

دائماً ما حاول نظام الملالي تقديم قاسم سليماني للإيرانيين بصورة البطل الأسطوري في الملحمة الفارسية الشاهنامة رستم بن زال. أمّا عند العرب فقد سعى إلى تسويقه كرمز تحرّري يشبه تشي غيفارا، مطلقاً العنان لأقلام بعض اليسار في تمجيده في استلاب ثقافي هجين.

رأينا أحد نماذج هذا الاستلاب الثقافي في معرض بيروت للكتاب في آذار 2022، حينما جرى نصب صورة عملاقة وفخيمة للجنرال المتّهم من قبل شعوب المنطقة، وكذلك منظمات دولية وإنسانية، بارتكاب مجازر وعمليات تطهير مذهبي، فوق دور نشر “ثقافية”، وتقديم سيرته كـ”مؤلّف ثقافي” في حين أنّ الجنرال القتيل كان “يتحسّس مسدّسه كلّما ذُكرت كلمة ثقافة”.

إقرأ أيضاً: تماثيل سليماني بين كرة القدم والانتخابات الرئاسية

مقابل بلد مثل السعودية يرعى الفنّ والإبداع، ويرسل الرسّامين والنحّاتين السعوديين إلى آخر المعمورة للمشاركة في معارض ثقافية، واستضاف أكثر من 50 حدثاً رياضياً كروياً منذ عام 2018، وسيستضيف دورة الألعاب الآسيوية الشتوية في نيوم 2029، وتقدّم بطلب استضافة كأس العالم عام 2034، هناك نظام حوّل بلده إلى معتقل كبير سجن فيه شعبه جسداً وعقلاً وروحاً وثقافةً، واختزله بقاسم سليماني.

وعندما يُجبه المدافعون عنه بالنهضة السعودية يكون الجواب أنّها “ثقافة استهلاك”.

الردّ الصادق على هذه الفلسفة أتى من الجمهور الإيراني نفسه بهتافاته في المدرّجات، وتوقه الشديد إلى رؤية نجوم وأساطير حلموا برؤيتها فحقّق الأمير محمد بن سلمان حلمهم.

مواضيع ذات صلة

هوكستين موفد ترامب… فهل يضغط لإنجاز الاتّفاق؟

كثيرٌ من الضبابية يحيط بمصير المفاوضات التي قادها آموس هوكستين بين لبنان وإسرائيل، أو بالأحرى بين “الحزب” وإسرئيل، عبر رئيس مجلس النواب نبيه برّي. التفاؤل…

الاتّفاق Done: إعلانه خلال أيّام.. أو أسابيع؟

بين واشنطن وتل أبيب وبيروت أصبحت شروط الاتّفاق معروفة، ولا ينقصها سوى لمسات أخيرة قد تستلزم يوماً واحداً، وقد تطول لأسابيع، أربعة ربّما. لكن ما…

“اليوم التّالي” مطعّم بنكهة سعوديّة؟

لم يعد خافياً ارتفاع منسوب اهتمام المملكة العربية السعودية بالملفّ اللبناني. باتت المؤشّرات كثيرة، وتشي بأنّ مرحلة جديدة ستطبع العلاقات الثنائية بين البلدين. الأرجح أنّ…

مخالفات على خطّ اليرزة-السّراي

ضمن سياق الظروف الاستثنائية التي تملي على المسؤولين تجاوز بعض الشكليّات القانونية تأخذ رئاسة الحكومة على وزير الدفاع موريس سليم ارتكابه مخالفة جرى التطنيش حكوميّاً…