ليست صدفة أن تكون مقابلة باسم يوسف مع بيرس مورغان، في أحد أهم البرامج الحوارية البريطانية، هي الأكثر مشاهدةً حول العالم، مع اقتراب عدد مشاهديها من 20 مليوناً في أقلّ من أسبوع. وليس صدفةً أنّ سفير فلسطين في لندن حسام زملط من الأكثر مشاهدةً هو أيضاً في حواراته الإنكليزية التي تشترك مع باسم يوسف في أنّها تعرّي الرواية الغربية – الإسرائيلية لما يجري في غزّة. فالإثنان أعادا الاعتبار لمظلومية الفلسطينيين التاريخية وهمجية الإسرائيليين ومجازرهم التاريخية أيضاً.
ليسَ الانقسام حولَ دعم إسرائيل. فهذا من المُسلّمات والبديهيّات السّياسيّة لأيّ إدارة أميركيّة، ديمقراطيّة كانت أم جمهوريّة. بل الانقسام حول دعم الجيش الإسرائيلي بالأسلحة الأميركيّة والغطاء السّياسيّ والسّكوت عن المجازر التي تُنفّذها الآلة العسكريّة الإسرائيليّة بحقّ الغزّيين.
توسّع الحرب في المنطقة سيزيدُ من صعوبة الوضع في أوكرانيا لمصلحة روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين. إذ بدأ التّملمُل من تمويل كييف يظهر في صفوف المُشرّعين من الحزب الجمهوريّ
هذا الخطاب ليس بعيداً عن الشارع الأميركي، وعن الإدارة الأميركية. فقد وصل تأثير “الرواية الفلسطينية”، باعتبارها محقّة، إلى مؤشّرات غير مسبوقة في أميركا:
1- %56 من الأميركيين لا يُوافقون على تعامل رئيسهم مع الأزمة الحاليّة في غزّة، وأنّ 53% منهم لا يؤيّدون إرسال مزيد من السّلاح إلى إسرائيل، بحسب استطلاع رأي أجرته شبكة CBS News، أُجريَ قبل وأثناء زيارة بايدن لتل أبيب الأسبوع الماضي، وشاركَ فيه 1,878 مواطناً أميركيّاً.
2- جاءَ في الاستطلاع أنّ 61% من المُستطلَعين الدّيمقراطيّين يريدون من بايدن أن يبذلَ مزيداً من الجهد لحلّ الأزمة دبلوماسيّاً بعيداً عن الحرب. و70% يؤيّدون إرسال مساعدات إنسانيّة أميركيّة إلى سكّان غزّة.
3- ذكرَت صحيفة “نيويورك تايمز” أنّ الحزب الدّيمقراطيّ الحاكم حالياً، يشهدُ انقساماً بسبب ردّة الفعل الأميركيّة الرّسميّة على الحرب. إذ يدعو التّقدميّون والديمقراطيّون الشّباب إلى الضّغط على إسرائيل لوقف الحرب، بينما يُجمع التيّار الوسطي، قلب القاعدة السّياسيّة للحزب، على الإشادة بموقف بايدن.
4- أمّا الجمهوريّون فكانت الغالبيّة العظمى منهم تؤيّد إرسال السّلاح إلى إسرائيل، و72% منهم غير راضين عن تعامل بايدن مع الأزمة.
5- لكنّ الإشارة الأكبر كانت في تقارير عن “عصيان يجري التخطيط له في وزارة الخارجية الأميركية”، بحسب موقع “هافينغتون بوست”، وهو أحد المواقع التي نقلت أنّ موظفي وزارة الخارجية مستاؤون من السياسة الأميركية حيال النزاع في الشرق الأوسط.
6- وقد خرجت إلى العلن هذه الأجواء مع استقالة المسؤول في وزارة الخارجيّة الأميركيّة جوش بول، الذي أعلن أنّ السبب هو “الخلاف حول السياسة المتعلقة بمساعدتنا الفتاكة المستمرة لاسرائيل”، وذلك في منشور استقالته على صفحته في منصّة LinkedIn. وبحسب “واشنطن بوست“، فإنّ استقالته مؤشّر نادر إلى الانزعاج الدّاخليّ من دعم إدارة الرّئيس جو بايدن إسرائيل في حربها ضدّ غزّة.
من هو جوش بول؟
يعمل جوش بول مُديراً لشؤون الكونغرِس في مكتب الشّؤون السّياسيّة والعسكريّة بالخارجيّة الأميركيّة.
بحسب صحيفة “واشنطن بوست”، هو أحد المسؤولين في المكتب الذي يتولّى عمليّات نقل الأسلحة. وقضى 11 سنةً في العمل كمُنسّق للعلاقات مع الكونغرس والرّسائل العامّة لمكتب المُساعدات العسكريّة.
المشاهد التي تخرج من قطاع غزّة، وثقل الدّماء التي يحملها نتانياهو على يديه وعاتقَيه، تجعلُ منه مادّة “مُنفّرة” للدعم، والدّاعمين. وفي وسطِ حفلة القتل والجنون، يبقى صوت المدافع والطّائرات هو الأعلى
ذكرَ بول في منشور استقالته أنّه “يستحيل الاستمرار في عملٍ يُساهم في قتل المدنيين الفلسطينيين”. كما أشارَ إلى أنّ خطوات إدارة بايدن تُعدّ ردّ فعلٍ متهوّراً مبنيّاً على التحيّز والإفلاس الفكريّ: “المساعدات الأميركيّة لإسرائيل تمنح الأخيرة الضّوء الأخضر لاتخاذ خطوات لا تراعي الخسائر في الأرواح بغزّة”.
في حديث له مع Huff Post، قال بول إنّه كان مضطرّاً إلى الاستقالة لـ”عدم قدرته على الضّغط لتنفيذ سياسة أكثر إنسانيّة داخل الحكومة الأميركيّة”.
خلافات في “الدولة العميقة”
لكنّ الخلافات وصلت إلى أعمق من هذا في “الدولة العميقة”، أي إلى المستوى الأمني الثابت، وليس فقط السياسي المتغيّر. إذ بحسب معلومات “أساس” يتوزّع الانقسام عل ىالشكل الآتي:
– أوّلاً: بين الـCIA وNSA من جهة وDIA من جهةٍ أخرى.
إذ تخشى وكالة الاستخبارات المركزيّة CIA ومكتب الأمن القوميّ NSA أن يتوسّع الصّراع في الشّرق الأوسط، ومن انعكاساته السلبية المُباشرة على مصالح الولايات المُتحدة في المنطقة، من سوريا إلى بحر عُمان والخليج العربيّ مروراً بالعراق والبحر الأحمر.
كما أنّ توسّع الحرب في المنطقة سيزيدُ من صعوبة الوضع في أوكرانيا لمصلحة روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين. إذ بدأ التّملمُل من تمويل كييف يظهر في صفوف المُشرّعين من الحزب الجمهوريّ.
لئن كانَت مكامنُ القلق ممّا قد يُقدِم عليه بوتين في أوكرانيا، إلّا أنّ الخشية تكمُن أيضاً في أن يستغلّ رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتانياهو الوجود والتأهّب العسكريّ الأميركيَّين في مياه البحر الأبيض المُتوسّط وبحر عُمان، وأن يُقدِم على “تحقيق حُلمه” بضرب المنشآت النّوويّة الإيرانيّة. وبذلك يجرّ نتانياهو واشنطن، وتحديداً الإدارة الدّيمقراطيّة، إلى حربٍ واسعة كانت تتجنّب خوضها منذ توقيع الاتفاق النّوويّ JCPOA في 2015، وانتقاد أركان الحزب الدّيمقراطيّ انسحاب الرّئيس السّابق دونالد ترامب منه في 2018.
الجدير بالذّكرِ أنّ رئيس وكالة الاستخبارات المركزيّة وليام بيرنز ومستشار الأمن القوميّ جيك سوليفان ووزير الخارجيّة أنتوني بلينكن كانوا من الذين عملوا وتفاوضوا مباشرةً مع الإيرانيين لتوقيع اتفاق 2015.
إقرأ أيضاً: عودة “الإسلام الجهادي” إلى فلسطين
أما الفريق الثّاني فتقوده وكالة استخبارات الدّفاع DIA، وهو يُؤيّد دعم العمليّة العسكريّة الإسرائيليّة ضدّ قطاع غزّة إلى أبعد الحدود، والتدخّل في حال دخَلت “أيّ دولة أو مُنظّمة على خط الحرب بين حماس وإسرائيل”، كما صرّح بذلك وزير الدّفاع الأميركيّ لويد أوستن.
يعتبر هذا الفريق أنّ دعم الولايات المُتحدة لإسرائيل في حربها ضدّ حماس يُعيدُ “الهيبة” العسكريّة الأميركيّة في الشّرق الأوسط، ويُؤكّد أنّ واشنطن هي اللاعب الدّولي الوحيد في المنطقة. إذ إنّ أيّ هزيمة أو فشل للجيش الإسرائيليّ هي هزيمة للجيش الأميركيّ، وباب لزيادة نفوذ روسيا والصّين وإيران في المنطقة.
في الختام، ليسَ الخلاف على دعم إسرائيل. فالمسألة تكاد تكون مادّة دستوريّة غير مكتوبة في واشنطن. لكنّ المشاهد التي تخرج من قطاع غزّة، وثقل الدّماء التي يحملها نتانياهو على يديه وعاتقَيه، تجعلُ منه مادّة “مُنفّرة” للدعم، والدّاعمين. وفي وسطِ حفلة القتل والجنون، يبقى صوت المدافع والطّائرات هو الأعلى.