يبدو أنّ طهران بدأت تحصد في أيلول ما زرعته في آذار من هذه السنة، على الأقلّ في الحقول التي تمتدّ في جوارها القريب، والتي تشكّل مصدر قلق وتوتّر سياسي أو تهديد أمنيّ يؤثّر على استقرارها الداخلي ومصالحها الوطنية وأمنها القومي.
بعد الاتفاق الذي وقّعته مع المملكة العربية السعودية برعاية صينية وانتقلت فيه من حالة العداء مع الرياض إلى مستوى من التطبيع واستئناف العلاقات الدبلوماسية والتخطيط لمسار من التعاون الاقتصادي والتجاري، تحوّلت سريعاً إلى استثمار هذه الأجواء ووضعت الجانب المتعلّق بمصادر التهديد الأمنيّ في الاتفاق الأمنيّ الذي وقّعته مع الدولة العراقية موضع التنفيذ ضمن مهل زمنية محدّدة.
يبدو أنّ طهران بدأت تحصد في أيلول ما زرعته في آذار من هذه السنة، على الأقلّ في الحقول التي تمتدّ في جوارها القريب، والتي تشكّل مصدر قلق وتوتّر سياسي أو تهديد أمنيّ يؤثّر على استقرارها الداخلي ومصالحها الوطنية وأمنها القومي
إذا ما كان موضوع الربط السككيّ بين الشلامشه الإيرانية والبصرة العراقية الذي وُضع على سكّة التنفيذ قد استغرق العديد من السنوات واستهلك أكثر من ثلاث حكومات حتى تمكّن من الوصول إلى هذه المرحلة، فإنّ الحلّ في المسائل التي تعتبرها طهران مصدراً للتهديد الأمني لم تستغرق الكثير من الوقت لتوضع على سكّة التنفيذ على الرغم ممّا فيها من معركة إرادات بين الجانبين، في رسالة واضحة مفادها أنّها لا تتسامح في التعامل مع مصادر تهديد أمنها القومي. أمّا في المسائل الأخرى ولو كانت ذات بعد استراتيجي فإنّها على استعداد لممارسة الصبر من دون التخلّي عن الهدف النهائي.
التنازل الإيراني مع العراق!
على العكس من أيّ مفاوضات قد تخوضها أو خاضتها مع الولايات المتحدة أو غيرها من الدول كالسعودية في الأزمة اليمنية، وقدّمت فيها تنازلات مؤجّلة أو تحتاج إلى زمن للتمظهر والخروج إلى العلن، لم تكن مجبرة أو بحاجة إلى مثل هذه التنازلات مع العراق، باعتبارها الممسك بمفاصل القرار والمؤثّر الأكبر في التوجّهات الاستراتيجية التي تخدم مصالحها ومشروعها على هذه الساحة، إلى جانب استعدادها للذهاب إلى خيار الحرب بما فيه من تداعيات سلبية.
تنطبق هذه المعادلة على الأحداث والمجريات التي شهدها العراق في الأيام الماضية والمتعلّقة بموضوع تفكيك قواعد ومراكز معسكرات ومكاتب الأحزاب الكردية الإيرانية التي تنشط على الحدود مع إيران وداخل أراضي حكومة إقليم كردستان، عندما لم تتسامح بأيّ تأخير ولو لبضع ساعات في تنفيذ الاتفاق الأمنيّ الذي سبق أن وقّعه الأمين العام للمجلس الأعلى السابق والمُقال علي شمخاني ونظيره العراقي قاسم الأعرجي في آذار الماضي، والذي يقضي بإخراج عناصر وقواعد ومعسكرات هذه الأحزاب بعيداً عن الحدود المشتركة ومنع أيّ نشاط سياسي لها داخل الإقليم.
استعراض القوّة الذي مارسته طهران وحشدها لوحدات من القوات المدرّعة والمدفعية والصاروخية والطائرات المسيّرة والطائرات المروحية التابعة للقوات البرّية في حرس الثورة الإسلامية على حدودها الشمالية الغربية، قبل أسبوع من الموعد النهائي لتطبيق الاتفاق الذي يتزامن مع الذكرى السنوية الأولى للحراك الشعبي الذي اندلع نتيجة مقتل الفتاة الكردية مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق، يعني أنّها ليست في وارد أيّ تساهل أو تراجع وأنّها على استعداد للدخول المباشر للتعامل مع الأحزاب الكردية الانفصالية وما تسمّيه “الجماعات الإرهابية الكردية”، خاصة أنّ هذه الأحزاب لعبت دوراً سلبياً في الحراك الشعبي وحوّلت المناطق الكردية الإيرانية إلى ساحة مواجهات دموية وسمحت للنظام برفع مستوى عسكرة هذه المحافظات والقيام بعمليات ملاحقة واسعة لكلّ من يشكّ فيه أو يعتبره مصدر تهديد لأمن واستقرار ووحدة الأراضي الإيرانية.
لم يكن الاختيار الإيراني لمحافظة الأنبار من فراغ أو عبث. وقد استطاعت إيران استيعاب بعض الأصوات من أبناء الأنبار الرافضين لهذه الخطوة، إلا أنّ هذه المحافظة سبق أن شهدت إجراء مماثلاً في زمن العهد السابق
الشروط الإيرانية لتطبيق هذه الاتفاقية أو هذا التفاهم مع العراق لم تمرّ فقط من خلال حكومة الإقليم التي تُعتبر من وجهة نظر النظام في طهران مسؤولة وشريكة في كلّ الأعمال التي قامت بها الأحزاب الكردية الإيرانية، بل فرضت إيران على إربيل تطبيق وتنفيذ ما اتُّفق عليه مع بغداد التي باتت تملك اليد العليا وقادرة على استغلال هذه الفرصة لإعادة فرض دورها وسلطتها تحت السقف الدستوري وما حدّده من صلاحيات وسلطات للحكومة الاتحادية في النظام الفدرالي القائم، الأمر الذي سمح لبغداد بإعادة الانتشار والسيطرة على الحدود الدولية في مناطق إقليم كردستان وعلى المنافذ البرّية ورسم السياسات الاستراتيجية للدولة العراقية الاتحادية والعلاقات الدولية والإقليمية في إطار المصالح الوطنية للعراق.
في المقابل، تتمسّك طهران بموقفها المتشدّد الذي طالب الجانب العراقي بالإنهاء التامّ لأيّ وجود سياسي أو أمنيّ أو عسكري للأحزاب الكردية الإيرانية على أراضي إقليم كردستان العراق، وهدّدت بالتدخّل عسكرياً لضربها في حال التلكّؤ أو عدم التنفيذ ولو جزئياً. لذلك لم تنجح كلّ الجهود التي بُذلت من أجل الإبقاء على الوجود السياسي والإنساني لهذه الأحزاب داخل الإقليم بعد تفكيك قواعدها ومعسكراتها بالقرب من الحدود الإيرانية.
عقوبة لإربيل
لم يكن الهدف من عدم التساهل الإيراني معاقبة وإبعاد هذه الأحزاب فقط، بل تضمّن عقوبة لإربيل وللحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني، ولذلك كلّ البدائل لإيواء وإسكان هذه الجماعات في مناطق أخرى على حدود الإقليم الكردي رفضتها طهران، واعتبرت أنّ انتقال هذه الجماعات إلى غرب نينوى يعني أنّها ستكون على مقربة من الحدود الإيرانية، وبالتالي لن يزول خطرها وتهديدها أو يتراجعا، خاصة أنّ طبيعة المنطقة الجغرافية وكثرة الجبال ستسهّلان تحرّكات هذه الجماعات. فإسكان أو نقل هذه الجماعات إلى غرب نينوى يعني أنّهم سيكونون على تواصل مع مناطق شرق سوريا، ومن غير المستبعد أن ينشأ تنسيق بينهم وبين جماعة “قسد” في الشرق السوري بإشراف أميركي يسهّل تنقّلهم في سوريا وتشكيل قوة مشتركة مع “قسد” تعمل على إثارة الأزمات من جديد في المعادلة السورية.
إقرأ أيضاً: المطار الإيرانيّ عنوان للسقوط اللبنانيّ…
لم يكن الاختيار الإيراني لمحافظة الأنبار من فراغ أو عبث. وقد استطاعت إيران استيعاب بعض الأصوات من أبناء الأنبار الرافضين لهذه الخطوة، إلا أنّ هذه المحافظة سبق أن شهدت إجراء مماثلاً في زمن العهد السابق بعد اتفاقية الجزائر التي وقّعها صدام حسين وشاه إيران محمد رضا بهلوي وأنهت حالة الحرب بينهما وفكّكت الجماعات الكردية التي استخدمها الطرفان أحدهما ضدّ الآخر.
سيكون نقل الجماعات الكردية من الجبال وارتفاعاتها إلى معسكرات تحيط بها فضاءات واسعة من الرمل من باب العقوبة النفسية، إضافة إلى أنّ المعسكرات التي تمّ اختيارها تقع بالقرب من منطقة الرطبة جنوب غرب وغرب محافظة الأنبار على مقربة من الحدود مع المملكة العربية السعودية مقابل مدينة عرعر، وتُعتبر هذه المنطقة منطقة نفوذ وانتشار وحدات وألوية من الحشد الشعبي الذي سيكون قادراً على مراقبة وملاحقة هذه الجماعات ومنعها من القيام بأيّ نشاط عدائي.