المخيّم… أرض ضيّقة.. لصراع أجندات مستحيلة

مدة القراءة 4 د


مع احتمالات التهدئة في مخيّم عين الحلوة وفق ترتيبات لوقف إطلاق النار، وإفساح المجال للوسطاء لعلّهم يتوصّلون إلى حلّ مؤقّت أو دائم، جاءت ذكرى مذبحة صبرا وشاتيلا التي راح ضحيّتها الآلاف من الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين وجنسيات أخرى من ساكنيه. حدثت المذبحة آنذاك بعد فترة وجيزة من تصفية مخيّمين فلسطينيَّين في المنطقة الشرقية من بيروت إبّان الحرب الأهلية هما “الضبيّة وتل الزعتر”. وقبل ذلك ومن دون إسهاب في سرد الوقائع وتواريخها وظروفها، كان المخيّم الفلسطيني الذي هو العنوان الأكثر تجسيداً للكارثة، عرضة لاجتياحات وحصارات وحروب، فما كان يخرج من محنة حتى يقع في محنة أفدح، وما إن يستقرّ حاله تدميراً أو تهجيراً في مكان، حتى يتكرّر المشهد في أمكنة أخرى، إلى أن وصل الأمر في أيّامنا هذه إلى أكبر مخيّم في الشتات والأقدم أيضاً، وهو مخيّم عين الحلوة، الذي يتوسّط سلسلة مخيّمات تبدأ من أقصى الشمال حيث البدّاوي ونهر البارد، ثمّ إلى الوسط حيث برج البراجنة وصبرا وشاتيلا في قلب بيروت، وتمتدّ جنوباً حيث صيدا وصور ومخيّماتهما. والظاهرة المشتركة بين كلّ هذه السلسلة أنّها ليست بعيدة عن المدن اللبنانية بل تكاد تكون في قلبها.
مخيّم عين الحلوة تقوده تاريخياً حركة فتح، أي منظمة التحرير بكلّ فصائلها، وكان الوئام الداخلي للمخيّم محميّاً بقوّة نفوذ قيادته الفلسطينية، ومتانة تحالفه مع الجوار، إذ كانت مدينة صيدا حاضنة أمينة وقاعدة وطنية عروبية وحدوية، ويعتبر أهلها وزعماؤها قضية فلسطين قضيّتهم، ولم يسجَّل عليهم يوماً أنّهم ضجروا أو تبرّموا أو قاموا بممارسات تؤذي المخيّم، بل كانوا على وفاق عميق ودائم مع ساكنيه.

بعدما أُخرجت الثورة الفلسطينية من الجنوب وبيروت، أدار المخيّم شؤونه معتمداً على أبنائه الذين بقوا، ومطمئنّاً إلى جواره، إلى أن فرض عليه التغيير بعدما فُرض على غيره، فأصبح بعدما آلت إليه الأمور

بعدما أُخرجت الثورة الفلسطينية من الجنوب وبيروت، أدار المخيّم شؤونه معتمداً على أبنائه الذين بقوا، ومطمئنّاً إلى جواره، إلى أن فرض عليه التغيير بعدما فُرض على غيره، فأصبح بعدما آلت إليه الأمور في مخيّمات الشمال والوسط والجنوب، مكاناً تتقاطع فيه ومن حوله قوىً وأجندات ترى في المخيّم الصغير المساحة والشديد الاكتظاظ هدفاً ليس فقط للسيطرة عليه وإنّما للسيطرة على الوجود الفلسطيني كلّه في لبنان.
هناك من يريده أحد مراكز “الممانعة”، وهنالك من يغطّي أجندة السيطرة عليه باتّهام حركة فتح بأنّها منفّذة لمؤامرة كونية، من أطرافها إسرائيل وأميركا، ويحبّون اختصار الفلسطينيين في مصطلح “جماعة رام الله”، وهنالك من يرى في فلول تنظيمَي القاعدة وداعش رأس حربة نموذجية ينفع استخدامها للسيطرة ولو بتوسيع مجالات الوساطة، وهنالك من ألبس ما يجري رداءً طائفياً، كأنّ المخيم حلقة سنّية تتّصل بعيداً على نحو يعيق الاستعدادات لتحرير الجليل.
هنالك من يقحم خلافة عباس كما لو أنّ أمراً كهذا يُحسم في عين الحلوة، وهنالك من يصدّر فكرة مفادها “اليوم لبنان- وغداً الضفّة”، وهذه نذر حرب أهلية ستشتعل لتصفية القضية من أساسها. كلّ ذلك يُركّب على مخيّم عين الحلوة كما رُكّب كثير من الأقوال على مخيّمات غيره.

إنّ ما يجري من قتال “في وعلى” مخيّم عين الحلوة، وما سبقه من حروب كانت المخيّمات في أكثر من مكان مسرحاً وضحيةً لها، فيه قدر كبير من إقحام الأجندات لمجرّد تبرير الولع بتوسيع النفوذ واليأس والدمار والموت وإعاقة حياة الناس في أردية مجد لم تعد تقنع أحداً.
الفلسطينيون في عين الحلوة بصيدا، وبرج البراجنة في الضاحية، ومخيّم جنين والأمعري والعروب في الضفّة، وفي نهر البارد والبدّاوي واليرموك، نحتوا شعاراً بقوّة المبدأ.. “المخيّم لا يصلح وطناً”، وكان ذلك أبلغ ردّ على خرافات الوطن البديل، ويقولون الآن: لن نسمح بتهجير جديد.

إقرأ أيضاً: تطبيع فلسطينيّ…. في الاتّجاه الآخر

إنّ كلّ ساكني المخيّمات يحتفظون بمفاتيح بيوتهم لعودة يؤمنون بها حتى لو بدا أنّها تبتعد، فالمخيّم الذي هو التعبير الأقوى عن كارثة فلسطين، لن يزول بفعل حروب وحصارات وتهجير، وإذا لم تُحلّ القضية الفلسطينية الأساسية بما يرضي أهلها، فكلّ ما يُحاك ضدّ المخيّم مجرّد عبثٍ لا طائل من ورائه.

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…