خطوط التجارة الجديدة: عن مواقع إيران وتركيا ومصر

مدة القراءة 7 د


بات بالإمكان فرز مواقف الدول الكبرى في الإقليم من مشروع الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC)، بما يوفّر نافذة لفهم طبيعة الصراع الجديد في الشرق الأوسط وعليه.

يمكن الحديث عن أربعة مشاريع جدّيّة لخطوط التجارة البحرية البرّية بين شرق آسيا وأوروبا تمرّ عبر الشرق الأوسط:

1- خطّ “الحزام والطريق” الصينيّ: يمرّ عبر المنطقة بثلاثة مسارات أساسية:

– الطريق البحري المعتاد عبر البحر الأحمر وقناة السويس إلى أوروبا، وهو ما يعبَّر عنه بـ”طريق الحرير البحري”.

– كوريدور برّي استراتيجي يمتدّ من غرب الصين إلى باكستان وصولاً إلى ميناء جوادر على بحر العرب، يتكامل مع الخطّ البحري.

– خطّ برّي عبر القوقاز إلى إيران ثمّ إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا.

 

2- الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC): يبدأ بالهند، ويتّصل بحراً بموانئ الإمارات، ثمّ يمتدّ برّاً إلى السعودية فالأردن فإسرائيل، ثمّ يتّجه عبر البحر المتوسط إلى أوروبا. تمّ توقيع مذكّرة التفاهم لإنشائه على هامش قمّة مجموعة العشرين في نيودلهي قبل أسبوعين، من كلّ من الولايات المتحدة والسعودية والاتحاد الأوروبي والهند والإمارات وفرنسا وألمانيا وإيطاليا.

 

3- “طريق التنمية”: وهو مشروع للبنية التحتية بتكلفة 17 مليار دولار يشمل طرقاً برّية وسككاً حديدية من ميناء الفاو جنوب العراق، على الخليج العربي، إلى تركيا شمالاً، ومنها إلى أوروبا. أطلق العراق المبادرة لإنشائه في مؤتمر دولي في بغداد في أيار الماضي، بحضور دول الخليج وتركيا وإيران.

 

4- كوريدور الهند – إيران – روسيا: واسمه الكامل “كوريدور النقل بين الشمال والجنوب” (INSTC). وهو يمتدّ من موانئ الهند على بحر العرب إلى ميناء بندر عباس الإيراني، ومن هناك برّاً إلى شمال إيران، ثمّ إلى روسيا، إمّا عبر بحر قزوين وإمّا عبر أذربيجان، ثمّ عبر البرّ الروسي إلى سانت بطرسبورغ على بحر البلطيق، ثمّ تصل البضائع إلى ألمانيا والدول الأوروبية الأخرى من الشمال بدلاً من الجنوب والغرب.

تروّج إيران لهذا الخطّ وتقترحه بديلاً عن رحلة البضائع عبر المحيط الهندي إلى البحر الأحمر، ثمّ عبر قناة السويس إلى البحر المتوسط، وبعد ذلك عبر مضيق جبل طارق إلى المحيط الأطلسي وبحر الشمال. وبحسب المصادر الإيرانية سيجعل هذا الطريق الهند أقرب إلى روسيا بمدّة 15 يوماً. إلا أنّ العديد من الخبراء يشيرون إلى الصعوبات التي تواجه المشروع، ومنها ضخامة الاستثمارات المطلوبة، وعدم الاستقرار الجيوسياسي في المنطقة، في ظلّ العقوبات والصراعات المحيطة بكلّ من روسيا وإيران، فضلاً عن أنّ سعات النقل فيه ضئيلة جدّاً مقارنة بالنقل البحري عبر قناة السويس.

 

موقع العراق… ودور تركيا

لا شكّ أنّ الصين كانت الأسبق والأكثر فاعلية في رسم خطوط التجارة منذ أن أطلقت مبادرة الحزام والطريق رسمياً عام 2013. فمنذ ذلك الحين وقّعت اتفاقيات مع أكثر من خمسين دولة، وتمّ بناء 56 منطقة للتعاون الاقتصادي والتجاري في 20 دولة على طول خطوط المبادرة.

إلا أنّ ردّة الفعل الأميركية فرضت واقعاً جديداً. فميزة ممرّ الهند – أوروبا (IMEC) أنّ جزءاً كبيراً من خطّه البرّي منجز بالفعل، ولم يبقَ سوى وصلتين صغيرتين نسبياً، إحداهما داخل الأردن، والأخرى لوصل الشبكتين الإماراتية والسعودية. ولذلك كان لا بدّ للأطراف الإقليمية أن تتحرّك للتعامل مع الواقع الجديد.

الموقف التركي من الممرّ الهندي كان الأعلى صوتاً. إذ عبّرت أنقرة بوضوح عن امتعاضها من استثنائها من مسار المشروع، ولو أنّها اعتمدت لغة “إيجابية” في المطالبة بتعديله، وآزرها العراق في ذلك، ما دامت مصلحتهما تقتضي إدماج “طريق الحرير” بخطّ IMEC. وربّما تسترعي هذه الفكرة اهتماماً دولياً وإقليمياً لسببين:

1- إدماج العراق في منظومة إقليمية – دولية للتجارة، يخفّف من اعتماده على إيران في سلاسل إمداده.

2- التقليل من أهميّة خطّ التجارة الهندي الإيراني الروسي.

لكنّ مشاكل الخطّ العراقي – التركي أكثر، وليس أقلّها أنّه متأخّر زمنياً وسياسياً. فتحوّله من خطة إلى واقع يتطلّب استثمارات هائلة لإنشاء الطرقات وسكك الحديد من جنوب العراق إلى شماله، ويحتاج إلى دعم من مؤسّسات التمويل الدولية، ويتطلّب وقتاً قد لا يكون متاحاً. بينما في المقلب الآخر، بات الخطّ البرّي لممرّ IMEC قريباً من الجهوزية.

الإشكال الآخر سياسي يرتبط بكليّة الموقف الغربي من تركيا وإدماجها بمشاريع الربط الإقليمي، إضافة إلى إشكالية موقعها الناتجة عن كونها عضواً في الناتو وذات علاقة وثيقة بروسيا في الوقت نفسه.

الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان لديه مشروع منذ وصوله إلى الحكم لجعل بلاده نقطة الوصل التجارية المركزية بين الشرق والغرب. وقد خطا خطوات مهمّة على هذا الصعيد في أسواق الغاز. ففي أراضيه يعبر “خط أنابيب عبر الأناضول” (TANAP) متّصل بخطّين للأنابيب من روسيا، “ترك ستريم” و”بلوستريم”. ويتّصل شرقاً بخطّ أنابيب من أذربيجان عبر جورجيا. وتغذّي هذه الخطوط عدداً كبيراً من الدول الأوروبية من اليونان إلى البلقان وإيطاليا وغيرها في وسط القارّة العجوز. ولم تتوقّف هذه الخطوط عن ضخّ الغاز، على الرغم من العقوبات الغربية على روسيا إثر الحرب الأوكرانية. وفي الأسابيع الأخيرة، تحرّكت تركيا باتجاه إسرائيل لإقناعها بمشروع خطّ أنابيب لتصدير الغاز إلى أوروبا عبرها.

ما هو موقف إيران… ومصر؟

في المقلب الآخر، لم يصدر عن إيران أيّ تصريح أو موقف من مشروع IMEC، لكنّها مدركة بالتأكيد أنّه يضعف فرصها للاستفادة من موقعها الاستراتيجي، ويؤخّر انخراطها في سلاسل الإمداد العالمية.

ويمتدّ الصمت الرسمي إلى مصر، لكن ليس إلى إعلامها الذي ينشط في تقديم شروحات تؤكّد عدم إمكانية التقليل من محورية قناة السويس في خطوط التجارة العالمية، أو أن يُستبدل بها خطّ سكك حديدية إلى ميناء حيفا.

ربّما من السليم الإشارة إلى أنّ موقع مصر في التجارة العالمية ليس مهدّداً بأيّ حال. فلا يمكن وفق أيّ سيناريو من السيناريوات أن ينخفض حجم حركة الحاويات العابرة من البحر الأحمر إلى المتوسط في العقود المقبلة، وذلك ببساطة لأنّها حركة هائلة جدّاً وصلت في 2022 إلى 24 ألف سفينة حاويات، من ضمنها 5,400 ناقلة نفط ونحو 900 ناقلة غاز مسال. وهذه حركة لا يمكن تعويضها أو استبدالها بأيّ خطّ قطار مهما بلغت سعته. وربّما الأصحّ أنّ خطّ IMEC سيوفّر معبراً جديداً لنمو حركة الإنتاج والتصدير بين الهند وأوروبا، بموازاة الخطوط القائمة حالياً، ومن ضمنها “طريق الحرير البحري”.

إقرأ أيضاً: الهندسات الماليّة: إرنست أند يونغ تقاضي ألفاريز؟

لكنّ ثمّة جوانب أخرى تنظر إليها مصر باهتمام في مشروع IMEC، تتعلّق بنقل الكهرباء والطاقة النظيفة وخطوط الأنابيب وكوابل الاتصالات. وكلّها مشاريع ما تزال في المراحل الأوّلية من الإعداد ورسم الخرائط ووضع الجداول الزمنية. ومن نافل القول أنّ لدى القاهرة مشروعها الجدّي لتكون عاصمة تجارة الغاز في شرق المتوسط، وتعمل منذ سنوات على خطط الربط الكهربائي بأوروبا، على أمل أن تدخل سوقها الحرّة للطاقة. ولذلك ستبحث عن سبل لإدماج نفسها في مشاريع IMEC، كما فعلت مع مبادرة الحزام والطريق الصينية.

يبقى أنّ مشروع IMEC، بكلّ حيثيّاته السياسية، لم يصبح ناجزاً بعد، وهو لا يمكن بأيّ حالٍ أن يكون نقيضاً غير قابل للتجاور مع الخطوط الأخرى في المنطقة، لكنّ السباق على أشدّه لبناء سلاسل الإمداد الأكثر صلابة والأكثر فاعلية. فذاك هو مفتاح القوّة والنفوذ في العقود المقبلة.

لمتابعة الكاتب على تويتر: OAlladan@

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…