تحوّل تأسيس إمارة الدرعية على يد محمد بن سعود (توفّي عام 1765م)، أو ما عُرف تاريخياً بالدولة السعودية الأولى (1744-1818م)، التي شملت معظم المساحة الجغرافية للدولة السعودية الحديثة، إلى حدث مفصليّ في تاريخ المنطقة، وإرهاصاً لدور جيوبوليتيكي مركزي متجدّد لشبه الجزيرة العربية، لم يكن طبعاً في مخيّلة المؤسّسين الأوائل، لا أثناء الدولة السعودية الأولى، ولا حين محاولة استعادة الدولة على يد تركي بن عبد الله آل سعود (اغتيل عام 1834م)، في ما عُرف بإمارة نجد، أو الدولة السعودية الثانية (1824-1891م)، ولا عند تأسيس الدولة السعودية الثالثة عام 1902م على يد عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود (توفّي عام 1953م) بدخول الرياض، قبل أن يتمكّن بعد ثلاثين سنة من توحيد البلاد وإعلان المملكة العربية السعودية عام 1932م.
الموقع والدور
جزيرة العرب، هي مهد الإسلام الذي وحّد القبائل المتشرذمة والمتناحرة. والمدينة المنوّرة هي مركز الدولة الإسلامية الأولى المترامية الأطراف، إثر الفتوحات شرقاً وغرباً، أيام الخلفاء الراشدين الثلاثة (أبي بكر وعمر وعثمان). لكنّ التغيّر الديمغرافي المتسارع بالانتقال المكثّف من الجزيرة إلى أرض الفتوح في العراق والشام وفارس ومصر، نقل مركز الثقل السياسي إلى خارج الجزيرة، وهو ما تجلّى في ولاية الخليفة الثالث عثمان بن عفّان، حين ثار عليه جند الأمصار، فحاصروه في منزله بالمدينة وقتلوه عام 656م، فبدا أنّ الحواضر الإسلامية خارج الجزيرة قد تعاظم دورها. بعد ذلك، نقل الخليفة الرابع عليّ بن أبي طالب (اغتيل عام 661م) مركز حكمه إلى الكوفة في العراق في مواجهة خصمه والي الشام معاوية بن أبي سفيان (توفّي عام 680م) الذي كان يتّخذ من دمشق قاعدة حكمه. ومنذ ذلك الحين، مروراً بالدول الإسلامية المتلاحقة، مع اختيار بغداد أيام العباسيين، والقاهرة أيام المماليك إثر سقوط بغداد على يد المغول عام 1258م، فإلى إستانبول عاصمة العثمانيين إثر سيطرة السلطان سليم الأول على الشام ومصر وأرض الحرمين نتيجة معركة مرج دابق عام 1516م، أمست جزيرة العرب منطقة هامشيّة سياسياً، لولا الرمزية الدينية فيها باعتبار فريضة الحج، وما تمثّله مكّة والمدينة لمسلمي العالم. وكلّ من يمدّ نفوذه إلى أرض الحرمين من السلاطين المتنازعين يكتسب شرعية راجحة على منافسيه.
المملكة العربية السعودية في عهد الملك سلمان، امتداد نوعي للتأسيس الأول، باتجاه تحويل الدولة السعودية الثالثة، إلى قوة إقليمية مؤثرة، وهو حلم لم يعد بعيد المنال
عند لحاظ هذه السياقات التاريخية بشكل مركّز ومقتضب، يمكن اعتبار قيام دولة مركزية في جزيرة العرب، منذ منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، وعلى ثلاث مراحل، انعكاساً في مسيرة التاريخ من الجزيرة إلى خارجها، فأصبحت الصحراء تدريجياً مع اكتشاف النفط بكمّيات تجارية عام 1938م جاذبة للسكّان بعدما كانت طاردة لهم نحو موارد الرزق والحياة خارج الجزيرة. وذلك حين لم تكن قد تأكّدت بعد مؤشّرات انهيار السلطنة العثمانية كقوّة مركزية جامعة نسبياً، مركز ثقلها في أوروبا الشرقية لا في آسيا وإفريقيا، مع أنّ محاولات إقامة مركز منافس آخر لإستانبول في القاهرة أيام محمد علي باشا (توفّي عام 1849م)، شكّلت تهديداً مباشراً لمحاولات آل سعود آنذاك تأسيس دولة مركزية في عمق الصحراء، في مناسبتين: الأولى عندما كلّفه العثمانيون وهو والي مصر القضاء على الدولة السعودية الأولى، والثانية حين جرّد المصريون حملة عسكرية على محاولة السعوديين استعادة دولتهم. ومن ثمّ، يمكن القول إنّ العلّة في فشل التأسيسين الأول والثاني للدولة السعودية، ونجاح التأسيس الثالث، مع أنّ التأسيس الثاني كان ذا طابع محلّي ضيّق، هو تغيّر الظروف العالمية. فظروف تأسيس الدولة السعودية الثالثة كانت مختلفة نوعياً، مع تهاوي قوّة الدولة العثمانية في مطلع القرن العشرين، ودخول الحرب إلى جانب دول المركز في الحرب العالمية الأولى، وهو ما أدّى إلى تفكّك بعض الإمبراطوريات الأوروبية: الإمبراطورية الروسية إثر الثورة البلشفية عام 1917م، والإمبراطورية النمساوية المجرية عام 1918، والدولة العثمانية عام 1922، وانفساح الكلام عن تقاسم ممتلكات النمساويين والعثمانيين وظهور دول جديدة، ورسم خرائط جديدة، فكانت الفرصة سانحة للملك عبد العزيز مع كثير من الجهد المبذول، ليوحّد الجزيرة من جديد، ويطلق العنان لكيان سياسي كبير، سيترافق مع اكتشاف النفط وتحوّله سلعة استراتيجية وضرورية لاقتصاد العالم، وهو ما أضفى على التأسيس نفسه أبعاداً جيوبوليتيكية ما زالت أصداؤها تتردّد حتى اليوم، وما زالت الاحتمالات تتوالى ومعها الأحلام العريضة، بدور أقوى وأكثر تأثيراً في سياسات الإقليم والعالم.
ملوك السعوديّة.. مميّزات وإنجازات
توالى سبعة ملوك على حكم المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها. وقد تميّز كلّ واحد منهم بإنجازات ولمسات خاصة، تشكّلت من شخصية الملك نفسه ومن الظروف والتحدّيات التي واجهها، فكانت سِمة عهده. ويمكن اختصار أبرز تلك الإنجازات التي صنعت حاضر المملكة بمجملها، وهي تهيّئ مستقبل الدولة، وفق الرؤية الطموحة لوليّ العهد الأمير محمد بن سلمان في ما يُعرف بـ”رؤية السعودية 2030″.
1- الملك المؤسّس عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل (حكم بين عامَي 1932 و1953م):
الشجاعة الفائقة للملك عبد العزيز مكّنته من الانتصار على أعدائه، واستعادة الرياض عام 1902م، بعدد قليل من الرجال. ومثابرته في خوض القتال في أرجاء الجزيرة أوصلته إلى توحيد البلاد عقب ثلاثين سنة، وتخطّي أقوى خصومه، لا سيما الشريف الحسين بن علي (توفّي عام 1931م) الذي كان ملك الحجاز وأوثق حليف لبريطانيا في الثورة العربية الكبرى بين عامَي 1916 و1918م ضدّ السلطنة العثمانية. وبُعد نظره حفّزه على دخول عالم الدول المنتجة للنفط مبكراً عام 1938م. واعتباره بالدروس من انتكاسات الدولتين السعوديّتين الأولى والثانية، بسبب التدخّل الخارجي، شجّعه على اللقاء التاريخي عام 1945 مع الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت (توفّي عام 1945) على ظهر سفينة حربية أميركية، عقب عودته من مؤتمر يالطا الذي رسم توازنات العالم لِما بعد الحرب العالمية الثانية. فالتفاهم بين الرجلين أرسى معادلة سياسية استراتيجية ما تزال قائمة حتى اليوم، على الرغم من كلّ ما عصف بها من خلافات.
تشهد المملكة في عهد الملك سلمان، ثورة إصلاحية في المجالات الإدارية والاقتصادية والسياسية، يتولاها ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان
2- الملك سعود بن عبد العزيز (حكم بين عامَي 1953 و1964م، وتوفّي عام 1969م):
أرسى الملك الثاني، أركان التعليم في المملكة الناشئة، وخاصة للبنات، فأنشأ الرئاسة العامّة للتعليم الخاصّ بالبنات عام 1960م. أسّس وزارة المعارف عام 1953م. وافتُتحت في عهده أول جامعة في الجزيرة العربية، هي جامعة الملك سعود في الرياض عام 1957م، ثمّ معهد الإدارة العامة للتنظيم الإداري عام 1960م، والجامعة الإسلامية في المدينة المنوّرة في عام 1961م. وأُسّست رابطة العالم الإسلامي في مكّة المكرّمة عام 1962م. وأنشأ كلية البترول والمعادن في عام 1964م.
3- الملك فيصل بن عبد العزيز (حكم بين عامَي 1964 و1975م، واغتيل عام 1975م):
تميزّ الملك الثالث، بخبرته السياسية الداخلية والخارجية، بفضل عمله اللصيق إلى جانب والده المؤسّس الملك عبد العزيز، وتسلّمه ولاية العهد في أيام الملك سعود. اهتمّ داخلياً بتوسيع نطاق التعليم العامّ والعالي على حدّ سواء، وتطوير القطاع الصحّي وبناء المستشفيات في المناطق. وفي الشأن الخارجي، تولّى وزارة الخارجية سنوات طويلة في أيام والده الملك عبد العزيز وشقيقه الملك سعود. قدّم الدعم لقضية فلسطين، مادّياً ومعنوياً. وتجلّى إسناده لدول المواجهة مع إسرائيل، في حرب تشرين عام 1973، بقطع النفط عن الدول المؤيّدة لإسرائيل.
4- الملك خالد بن عبد العزيز (حكم بين عامَي 1975 و1982م):
عُرف الملك الرابع، بشخصيّته المتواضعة وقربه من الناس، فكان جلّ اهتمامه تطوير القطاعات الصحّية استشفاءً وافتتاحاً لكلّيات طبّية في الجامعات، والتعليمية عموماً من خلال رصد ميزانية عالية لتطوير التعليم، حيث خُصّصت مبالغ كبيرة لزيادة كفاءة التعليم في المملكة، ودعم تعليم البنات، فتساوت أعداد الطالبات بأعداد الطلاب الملتحقين في المدارس تقريباً. وافتتاح عدد من مراكز التدريب المهني في مناطق مختلفة من المملكة، وإقامة أم القرى في مكة، ةتأسيس جامعة الملك فيصل في الأحساء وفي الدمّام. أمّا الإنجازات الخدماتية فتركّزت في تطوير المرافق البلدية والقروية. أما التحدّي الأخطر فكان استيلاء جهيمان العتيبي على الحرم المكيّ في 20 تشرين الثاني عام 1979، وإعلانه بأن صهره محمد بن عبد الله القحطاني هو المهدي المنتظر. وقد تمكّنت القوات السعودية من إخماد التمرّد المسلّح بعد أسبوعين من القتال. هذه الحادثة الخطيرة احتوتها السلطات السعودية بإجراءات متنوّعة بين الحزم الأمني والتوعية الدينية.
5- الملك فهد بن عبد العزيز (حكم بين عامَي 1982 و2005م):
عُرف عهد الملك الخامس للمملكة، بأمرين أساسيَّين: الأوّل توسعة الحرمين المكّي والمدني لاستيعاب أكثر من مليون مصلٍّ في الأوّل، وأكثر من مليون ومئتي ألف مصلٍّ في الثاني. وفي عام 1986م، تخلّى الملك فهد عن لقب جلالة الملك، مستعيضاً عنه بلقب “خادم الحرمين الشريفين”. والأمر الثاني، هو مواجهته التحدّيات السياسية الإقليمية، كالاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982م وتبعاته، وهو الذي كان قدّم مبادرة للسلام مع إسرائيل على قاعدة الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلّة عام 1967م بما فيها القدس، وذلك عندما كان وليّاً للعهد. وحاول احتواء حربين كبيرتين في الخليج، الأولى بين العراق وإيران بين عامَي 1980 و1988م، والثانية عقب اجتياح العراق للكويت عام 1990م، ثمّ تحرير الكويت بمساعدة التحالف الدولي في العام التالي. وفي عام 1995م أصيب بجلطة دماغية، فأدار الأمور وليّ عهده شقيقه الأمير عبد الله بن عبد العزيز إلى حين وفاته.
6- الملك عبد الله بن عبد العزيز (حكم بين عامَي 2005 و2015م):
عُرف الملك السادس بمبادراته الداخلية والخارجية. ففي الداخل، قام بجولات تفقّدية للمناطق وأطلق مشاريع تنموية. وفي الخارج، كان عليه مواجهة أخطر تحدٍّ للعلاقات السعودية الأميركية عقب الهجمات الانتحارية بالطائرات المدنية على نيويورك وواشنطن، التي تبنّاها أسامة بن لادن وشارك فيها سعوديون. وفي قمّة بيروت عام 2002م، أطلق الأمير عبد الله مبادرته الشهيرة تجاه إسرائيل: الأرض مقابل السلام. فكان ردّ إسرائيل تشديد الخناق على السلطة الفلسطينية في رام الله. انضمّت المملكة إلى منظمة التجارة العالمية عام 2005م وهي خطوة تاريخية في المجال الاقتصادي. وافتُتحت 17 جامعة في عهده.
إقرأ أيضاً: العلاقات السعوديّة الإيرانيّة: 40 سنة من المواجهة الجيوسياسية
7- الملك سلمان بن عبد العزيز (تولّى الحكم عام 2015م):
تصدّى الملك السابع لأمرين ملحّين، الأوّل خارجي والثاني داخلي. ففي مطلع عهده أطلق الملك سلمان “عاصفة الحزم”، لوقف زحف الحوثيين من شمال اليمن إلى الجنوب، بعد انقلابهم على الحكم في صنعاء. وفي الداخل، أقدم الملك على خطوة مفصليّة بالانتقال المنتظَر من الجيل المؤسّس إلى جيل الشباب، مع تعيين الأمير محمد بن سلمان وليّاً للعهد، مع تدرّج في الأمر. والجديد المهمّ في هذه الخطوة، ليس مدّ المملكة بدماء جديدة فحسب، لتجديد بنيانها، بل تبنّي خطّة طموحة جدّاً، لتبديل طبيعة صناعة القرار جذرياً، لتصبح المملكة في مصافّ الدول الحديثة، حيث تسود معايير مختلفة، عنوانها الأبرز المصلحة الوطنية أوّلاً، وسريان مبدأ الشفافية والفعّالية والجدوى في أيّ قرار أو مشروع تتولّاه الدولة وتسهر على إنجازه.
وتشهد المملكة في عهد الملك سلمان، ثورة إصلاحية في المجالات الإدارية والاقتصادية والسياسية، يتولاها ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان. ورؤيته الطموحة تحت عنوان “رؤية السعودية 2030″، تحفّز الأمل بنقلة نوعية للبلاد لتكون في مصافّ الدولة المتقدّمة، بل أعلن عن قرب إطلاق رؤية 2040.
المملكة العربية السعودية في عهد الملك سلمان، امتداد نوعي للتأسيس الأول، باتجاه تحويل الدولة السعودية الثالثة، إلى قوة إقليمية مؤثرة، وهو حلم لم يعد بعيد المنال.
لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@