فرنسا بين أيلولين: حكاية السقوط الكاملة

2023-09-20

فرنسا بين أيلولين: حكاية السقوط الكاملة


شكّلت فرنسا أحد أعمدة الثالوث الدولي في البيان الثلاثي. كانت عموداً يرتجّ كثيراً بفعل الهزّات السياسية. يترنّح بفعل المتغيّرات والتأثيرات. تغيّرت فرنسا بين أيلولين. فرق كبير بين فرنسا أيلول 2022 وبين فرنسا أيلول 2023. اصطدمت سياستها الدولية بالعديد من الحواجز الدبلوماسية. أحرجت نفسها على المسرح الأممي. حاصرتها الظروف الدولية الواقعية. انشغلت بمشاكلها المحلية. إرتبكت من تطوّرات الأحداث القارّية. انتهجت سياسة الأمر الواقع، فتراجعت.

هدف البيان الثلاثيّ ليس تدويل الأزمة
لم يكن الهدف الأساسي من البيان الثلاثي الذي صدر على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر أيلول 2022 تدويل الأزمة اللبنانية. تمحورت فكرته الأصلية على مساعدة لبنان في أن يكون دولة مؤسّساتية وحقيقية، من خلال مظلّة عربية وأممية استشارية وتوافقية. منح الأولويّة لاستقرار لبنان. هدف إلى ترسيخ الطائف، وإلى احترام التوازنات المؤسِّسة للكيانية اللبنانية. وشجّع على تطبيق القرارات الدولية.
شكّل البيان منذ صدوره اللبنة الدولية والأممية الأولى في مسيرة استعادة لبنان لعافيته كدولة فاعلة ونافعة. هو أعلى منزلة دولية من توصية، وأقلّ من قرار. ويُعتبر حجر الأساس وخارطة الطريق الأساسية في مشوار استرجاع الثقة اللبنانية المفقودة مع المجتمع الدولي.
لقد تزامن صدور البيان الثلاثي الدولي مع مجموعة من الأحداث:
1- فرنسياً: مع انطلاقة العهد الماكروني الثاني المثقل بكلّ أخطائه التكتيّة وثقته الزائدة.
2- لبنانياً: مع بداية الشغور الرئاسي في رأس الدولة والمقام اللبناني الأوّل.
3- سعودياً: نهوض “الثقب الأسود السياسي” السعودي القادر على أن يجذب إليه كلّ شيء بلغة السلام والتوافق والحوار والشراكة والهدوء.
4- أميركياً: ضياع من الشرق إلى الغرب، مع تململ من أوكرانيا وأوروبا وإرتباك من الصين وروسيا.

حاولت فرنسا على الرغم من توقيعها على البيان الثلاثي والتزامها بكلّ بنوده ومقرّراته التمايز والتفرّد. فُتح لها المجال تحت سقف البيان الثلاثي، لما تمثّل في الوجدان اللبناني وعلى المسرح الدولي

خلال هذه السنة تبدّلت أمور عديدة:
– تسارعت وتيرة التطوّر الإيجابي الجاذب للسعودية.
– أضحت فرنسا المتغيّرة والمحاصَرة “مبلولة” بأمطار أيلول السياسية من قلب أوروبا عبر حرب أوكرانيا والمشاكل الاقتصادية، إلى إفريقيا ومعاناتها التاريخية، والشرق الأوسط ولبنان الذي لا تريد خسارة نفوذها فيه.
– باتت إيران محاصَرة دولياً بالمفاوضات مع أميركا غير المباشرة والوساطة القطرية والعُمانية، وملزمة شرق أوسطياً وعربياً عبر الوساطة الصينية بالتقارب مع المملكة العربية السعودية والعالم العربي.

حساب فرنسا بعكس بيدرها
حاولت فرنسا على الرغم من توقيعها على البيان الثلاثي والتزامها بكلّ بنوده ومقرّراته التمايز والتفرّد. فُتح لها المجال تحت سقف البيان الثلاثي، لما تمثّل في الوجدان اللبناني وعلى المسرح الدولي. لكنّها استخدمت موقعها التاريخي بسلوك يتناقض مع سياستها التاريخية في لبنان، فلم تفلح. طمحت فرنسا في عهد إيمانويل ماكرون الرئاسي الثاني إلى التطبيع مع النظام الإيراني وأذرعه في لبنان والمنطقة العربية وحتى إفريقيا. حاولت التفاوض في شمال إفريقيا مع كلّ من روسيا وإيران لإعادة تحصين وجودها. أرادت امتصاص الحراك الإيراني ضماناً لأوروبا في مفاوضات فيينا النووية. هدفت من خلال ذلك إلى المحافظة على مكانتها ونفوذها في لبنان من خلال اكتساب الحصص والأسهم والسيطرة على الشركات في المرفأ والمطار والنفط والغاز، عبر انتهاج سياسة الأمر الواقع والتعامل مع القويّ على الساحة، حيث تشكّلت لها قناعة بأنّه لولا الحزب لما حصل الترسيم، وأنّه الأمان لها في أوروبا ولكلّ الاستثمارات والاتفاقات، وضامن للمصالح، حتى أكثر من الدولة اللبنانية.
لكنّ ما حصل هو العكس تماماً. فقد خسرت فرنسا في إفريقيا مع صدمة الانقلابات. لم يُنتج تواصلها مع الإيراني ووكلائه في لبنان أيّ أمر جدّي وإيجابي سوى المزيد من إضاعة الوقت. ووصلت العلاقة الفرنسية الإيرانية إلى دركها الأسفل. ولم تحرز شيئاً من خلال علاقتها وتواصلها مع الحزب في لبنان سوى التحاور باللغة الفرنسية. وجلّ ما ظفرت به المزيد من الإحراج على الساحات العربية والدولية وحتى اللبنانية المحلية.

السعوديّة تعمل بصمت
في حين عملت المملكة بصمت إزاء كلّ هذه المجريات، تطوّر البيان الثلاثي وأصبح لقاءً خماسياً، مع مظلّة عربية إضافية وأثر دولي فعّال. نسجت التوافقات السياسية تظهر تفرّقها على دبلوماسية السجّاد العجمي. فرضت على إيران التقارب وحاصرتها بالوساطة الصينية. ثبّتت طريقة الحلّ في لبنان عبر التوافق وتطبيق الدستور والقرارات الدولية.
أصبحت المملكة العربية السعودية نقطة الارتكاز الأساسية في اللقاء الخماسي الدولي، وأضحت هي الوسيط الذي لا غنى عنه . تحتاج إليها فرنسا وأوروبا.  تحتاج إليها إيران أيضاً، حيث إنّ المملكة وسيطة بين روسيا والمجموعة الغربية وحلف شمال الأطلسي، بعدما دخلت الحرب الأوكرانية عبر مسيَّراتها التي تستخدمها موسكو في ضرب كييف.

عملت المملكة بصمت إزاء كلّ هذه المجريات، تطوّر البيان الثلاثي وأصبح لقاءً خماسياً، مع مظلّة عربية إضافية وأثر دولي فعّال

التغيّر الفرنسيّ
حتّمت كلّ هذه الأمور على فرنسا العودة السريعة عن سياستها السابقة بين أيلولين. لقد كانت تطبّق في أيلول الماضي سياسة انتهازية مختلفة عن تلك التعاونية في أيلولنا الحالي. كان في تعيين فرنسا جان إيف لودريان مبعوثاً رئاسياً خاصاً في الملفّ اللبناني، وهو استجابة فرنسية عاقلة للموقف السياسي السعودي، عملية تجفيف نفسها من البلل الفاضح في لبنان. تحوّلت الخماسية إلى ماكينة ضغط أقوى من الثلاثية على فرنسا قبل غيرها. وهو ما استوجب نموذجاً جديداً للتعاطي مع الملفّ اللبناني.

تكويعة فرنسيّة
ترغب فرنسا في تحقيق انتصار خارج إفريقيا من خلال المحافظة على دورها في لبنان بوّابتها في الشرق. وتتطلّع أميركا إلى أن تسجّل فوزاً جغرافياً بديلاً لكييف، وأن تضمن أمن الكيان الإسرائيلي وسياسته الطاقوية، وتقارباً مع المملكة السعودية بغاية التضييق على الصين.
يحاول المبعوث الرئاسي الفرنسي الخاصّ إحداث خرق بالتعاون مع المجموعة الخماسية الدولية. في حين أنّ التراكمات كثيرة. هو مقتنع بالرؤية السعودية وأن لا حلّ إلا بالتوافق واحترام القوانين، فبدّل في شكل الحراك الفرنسي. يرتبط جان إيف لودريان بعلاقات جيّدة مع العرب، وهو قريب جداً من الكنيسة ومؤمن بصيغة لبنان 1920 القائمة على التعايش المشترك، وهو ما شجّع على تعيينه من قبل الرئيس الفرنسي ماكرون.

إقرأ أيضاً: لودريان في بيروت بعد لقاءين: دبلوماسيّة فرنسيّة بوقود سعوديّ

يتمّ العمل حالياً في نيويورك على نقطتين بارزتين هما:
– إمكانية النقاش تحت سقف الطائف في سبيل إنهاء الشغور الرئاسي.
– منطق التوافق هو تعبيد الطريق نحو الخيار الثالث غير الاستفزازي.
لا يحتاج الملف اللبناني في أيّ اجتماع إلى برنامج رسمي مسبق يعلنه. إذ يكفي أن يجتمع اثنان من دول خليّة الأزمة الخماسية حتى يكون الموضوع اللبناني ثالثهما. وسوف تتم مناقشة الموضوع اللبناني، مع مناقشة حصيلة الجولة اللودريانية الأخيرة، مع طرح فكرة الجلسة الانتخابية الواحدة المفتوحة مع دوراتها المتتالية والمتتابعة. وسيتمّ التداول في إمكانية إدارة النقاش اللبناني من قبل فرنسا مع دول المجموعة الخماسية من دون رأس وبجلسات ثلاثية وثنائية. هي عملية تحرّر فرنسي من حصارها في لبنان وانغماسها في وحل سياسة الأقلّيات في لبنان والشرق.

مواضيع ذات صلة

لبنان ضحيّة المفهوم الخاطئ للانتصار!

يُخشى تحوّل لبنان ضحيّة أخرى للمفهوم الخاطئ للانتصار، وهو مفهوم رائج لدى قسم كبير من الأنظمة السياسية في المنطقة. ليس مفهوماً إلى الآن كيف يمكن…

“علوّ اليهود في الأرض”.. كيف نواجهه؟

“إعصار البايجر” هو النقطة الفاصلة في هذه الحرب، الإسنادية في شكلها، الاستنزافية في جوهرها. هو ليس تفصيلاً بسيطاً، بل رأس الجبل من تجويف خطير لخطاب…

بزشكيان ابن مهاباد يفعّل كرديّته في العراق !

لا تطلب إيران المساعدة من أحد لمعالجة مشاكلها الداخلية والخارجية، لكنّها لا تتردّد في فرض خدماتها على الآخرين في الإقليم.   قرار الرئيس الإيراني مسعود…

نكسة لبنان الرقمية

هل يمكن، بالمعنى العسكري، إلحاق الهزيمة بإسرائيل، من طرف “حزب الله”، أو حتى الأم الراعية، إيران، ناهيك، حتى لا ندخل في دائرة المزح، من طرف…