في الإمكان تلخيص مضمون المقابلة التي أجرتها “فوكس نيوز” مع الأمير محمّد بن سلمان وليّ العهد السعودي بنقطتين. أولى النقطتين وجود شروط معيّنة للتطبيع مع إسرائيل، فيما تتعلّق النقطة الثانية بهدنة طويلة مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران. مثل هذه الهدنة حاجة إيرانيّة في الوقت ذاته، خصوصاً في ظلّ التجاذبات الدائرة في الداخل الإيراني. محور التجاذبات في الداخل الإيراني خلافة “المرشد” علي خامنئي الذي تقدّم به العمر.
نقطة واحدة اسمها التغيير
تلتقي النقطتان عند نقطة واحدة اسمها التغيير. التغيير في إسرائيل والتغيير في إيران: هل يمكن لإسرائيل أن تتغيّر في ظلّ حكومتها اليمينية المتطرّفة؟ هل يمكن لإيران أن تتغيّر في ظلّ النظام القائم الذي لم يتخلَّ يوماً عن الشعار الذي رفعه منذ 1979، شعار “تصدير الثورة”، وهو الشعار الذي تسبّب في حرب مع العراق استمرّت ثماني سنوات؟
من الواضح أنّ وليّ العهد السعودي يسعى إلى بقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع الإدارة الأميركيّة، إضافة إلى تطوير العلاقات بين الرياض وواشنطن في مجالَي التوصّل إلى اتفاق دفاعي مشترك واستخدام الطاقة النووية لأغراض سلميّة. يستحيل تجاهل أنّ إدارة جو بايدن غيّرت موقفها من المملكة العربيّة السعودية نحو الأفضل. يمكن الكلام، حتّى، عن تراجع أميركي كبير في الموقف، المتعنّت سابقاً، من المملكة ومن الأمير محمّد بن سلمان بالذات.
لم تستطع الولايات المتحدة الهرب من الاعتراف بأنّ السعوديّة دولة في غاية الأهمّية، بل محوريّة، في المنطقة، إضافة إلى أنّها تواجه تهديدات. هذا لا يعود إلى موقعها فحسب، بل يعود أيضاً إلى الدور الذي تستطيع لعبه في مجال الطاقة والتحكّم بسعر برميل النفط. إضافة إلى ذلك كلّه، توفّر السعوديّة فرص عمل لعشرات آلاف الأميركيين.
يوجد ثمن ترفض إسرائيل دفعه، وهو ثمن فلسطيني سيكلّف بنيامين نتانياهو سقوط حكومته التي أخذت على عاتقها إجراء الإصلاح القضائي
ثمن يرفض نتانياهو دفعه
يتطلّب بقاء القنوات مفتوحة مع واشنطن لعب ورقة التطبيع مع إسرائيل التي لا يمكن تجاوز وضعها في المنطقة وفي المعادلات التي تتحكّم بالتوازنات فيها. لكنّ واشنطن نفسها تعترف بأن ليس في إسرائيل، أقلّه في الوقت الحاضر، من يريد فعلاً الذهاب إلى النهاية في التطبيع مع السعوديّة والعيش بسلام وأمان مع دول المنطقة ودفع الثمن المطلوب فلسطينياً.
يوجد ثمن ترفض إسرائيل دفعه، وهو ثمن فلسطيني سيكلّف بنيامين نتانياهو سقوط حكومته التي أخذت على عاتقها إجراء الإصلاح القضائي. من دون هذا الإصلاح القضائي، الذي يحدّ من حرّيّة المحكمة العليا واستقلالها، سينتهي نتانياهو سياسياً. في غياب الإصلاح القضائي ليس مستبعداً أن يكون مصير “بيبي” في السجن، كما حصل مع إيهود أولمرت، أحد أسلافه في موقع رئيس الوزراء. يواجه نتانياهو أربع تهم خطيرة في قضايا فساد. لا أمل أمامه بتجاوز هذه التهم من دون الإصلاح القضائي الذي ترفضه أكثريّة شعبيّة إسرائيلية. لكن ما العمل عندما يضع “بيبي” مصلحته الشخصيّة فوق كلّ اعتبار آخر، بما في ذلك علاقة إسرائيل بمحيطها العربي؟
ما يمكن أن يعزّز الموقف السعودي في التعاطي مع إسرائيل أنّ ما تريده المملكة هو ما تريده إدارة بايدن، في الخطوط العريضة طبعاً. تلتقي واشنطن والرياض عند ضرورة وقف الحكومة اليمينيّة برئاسة نتانياهو عند حدّها في ما يخصّ الاستيطان وبقاء خيار الدولتين حيّاً يرزق.
من الواضح أنّ وليّ العهد السعودي يسعى إلى بقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع الإدارة الأميركيّة، إضافة إلى تطوير العلاقات بين الرياض وواشنطن
قوّة الموقف السعودي
تكمن قوّة الموقف السعودي في القدرة على الانتظار. انتظار ما يجري في إسرائيل وانتظار ما إذا كانت إيران ستتغيّر… وما إذا كانت الصين تستطيع لعب دور يلجم المشروع التوسّعي الإيراني بكلّ أبعاده، خصوصاً في اليمن. كان لافتاً استيعاب وليّ العهد السعودي لأهمّية الصين وضرورة أن تكون “قويّة”، نظراً إلى أن لا مصلحة لدى أيّ قوّة اقتصادية في العالم بصين ضعيفة. ليس سرّاً علاقة الاقتصاد الصيني بالاقتصاد الأميركي ووجود مصلحة لدى الجانبين في تفادي أيّ مواجهة مباشرة.
ثمّة حاجة أميركيّة إلى السعوديّة. تفسّر هذه الحاجة التطوّر الذي طرأ على العلاقات بين البلدين على كلّ المستويات، بما في ذلك التعاون العسكري والعمل على حلّ سياسي في اليمن بمشاركة الحوثيين، الذين ليسوا سوى أداة إيرانيّة. معروف أنّ الإدارة الأميركيّة سعت دائماً إلى علاقة جيّدة مع “جماعة أنصار الله”. كان بين أوّل القرارات التي اتّخذها جو بايدن، لدى دخوله البيت الأبيض مطلع عام 2021، رفع الحوثيين عن لائحة الإرهاب الأميركيّة. ما لغز هذا الموقف الأميركي من مجموعة يمنيّة تابعة لإيران ترفع شعار “الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام”؟
سواء طرأ تطوّر على العلاقات السعودية – الإسرائيلية أم لم يطرأ، أو حقّقت العلاقات السعودية – الإيرانيّة تطوّراً أم لم تحقّق في ضوء الاتفاق السعودي – الإيراني الموقَّع في بيجينغ (بكين) في العاشر من آذار الماضي، الثابت الوحيد أنّ العلاقات السعوديّة – الأميركيّة مقبلة على مزيد من التعاون في العمق، بما في ذلك المجال العسكري.
بالنسبة إلى العلاقات بين السعوديّة وإسرائيل، سيعتمد الكثير على ما سيشهده الداخل الإسرائيلي. في الواقع، لا أمل في أيّ خطوة إسرائيلية ذات طابع إيجابي تجاه حقوق الشعب الفلسطيني ما دامت الحكومة الحالية قائمة وما دام مستقبل بنيامين نتانياهو مرتبطاً بخطة الإصلاح القضائي التي تتمسّك بها الحكومة الأكثر يمينية في داخل دولة إسرائيل.
إقرأ أيضاً: لبنان: الاتّفاق السعوديّ – الإيرانيّ يصاب بالحمّى الخمينيّة..
يتمثّل ما نجح فيه الأمير محمّد بن سلمان في نقل العلاقات مع أميركا إلى مكان آخر. عزل هذه العلاقات عن التطبيع مع إسرائيل من دون صدور كلام سعودي يشير إلى وقف الأخذ والردّ مع الإسرائيليين. كذلك، عزل العلاقات مع واشنطن عن المزايدات الإيرانيّة، بما في ذلك الملفّ النووي الذي تلوّح به “الجمهوريّة الإسلاميّة” بين حين وآخر. ستتطوّر العلاقات بين الرياض وواشنطن من دون أن يعني ذلك أيّ تراجع في ما بات يربط بين السعوديّة والصين. سيبقى على الصين أن تُظهر بين حين وآخر، خصوصاً في ما يخصّ إيران، أنّ الرهان السياسي عليها رهان في محلّه مثلما هو الرهان الاقتصادي على قدراتها.