السؤال الأوّل الذي يطرحه هذا العنوان هو: ما هو الجديد في الشرق الأوسط؟
تتطلّب الإجابة على هذا السؤال التوقّف أمام معاني المتغيّرات التالية:
– أوّلاً: اتّساع الهوّة بين الولايات المتحدة والدول العربية، وخاصة في عهد الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن. فقد عمل، كما عمل الرئيسان الأميركيان اللذان سبقاه، على خفض حجم الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط عموماً، وفي الخليج العربي خصوصاً.
– ثانياً: الأولويّة اليوم للولايات المتحدة هي مواجهة الصين وكسر الشوكة الروسية في أوكرانيا، وإبقاء الحلف الأطلسي متماسكاً تحت رئاستها، وصناعة حلف مماثل في الشرق الأقصى يضمّ اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والفلبين. لم يعد الشرق الأوسط أولوية في الاستراتيجية الأميركية، فهو لا يتقدّم في الاهتمامات الأميركية حتى على الاضطرابات الأمنية التي تتفجّر من وقت لآخر في الولايات المتحدة على خلفيّات عرقية واجتماعية وحتى دينية.
– ثالثاً: الانفتاح الشرق أوسطي على الصين. فقد ارتفعت نسبة وارداتها من نفط الشرق الأوسط من خمسة في المئة إلى 26 في المئة (حسب أرقام البنك الدولي) وانخفضت هذه النسبة من 34 في المئة إلى 16 في المئة مع الولايات المتحدة.
في التسعينيات من القرن الماضي (القرن العشرين) كانت صادرات المملكة العربية السعودية من النفط إلى الصين تبلغ واحداً في المئة فقط، والآن ارتفعت النسبة إلى 28 في المئة.
يعاني لبنان من هجرتين متكاملتين في نتائجهما التدميرية التي تصل إذا استمرّتا إلى إلغاء الذات: هجرة منه وهجرة إليه
لا يقتصر الالتفاف على الولايات المتحدة فقط، لكنّه يشمل أيضاً أوروبا. يعكس ذلك الاتفاقُ الذي عقدته المملكة السعودية مثلاً مع البرازيل (إحدى دول البريكس)، وتبلغ قيمته 2.6 مليار دولار، وذلك ضمن خطة سعودية لتطوير وتحديث صناعتها التي تبلغ نفقاتها حتى عام 2030 ما قيمته 17 مليار دولار.
أين الشركات الأميركية؟ وأين الشركات الأوروبية التي كانت تعتبر أنّها تستحقّ الأولوية والأفضلية في مثل هذه المشاريع البنيوية للشرق الأوسط الجديد؟
– رابعاً: أدّى نجاح المبادرة التصالحية الصينية بين السعودية وإيران إلى اختصار طريق الحرير الصينية إلى الشرق الأوسط. فنجاح المبادرة لا يعني فقط وقف الحرب في اليمن، لكنّه يعطّل مجموعة من القنابل المتفجّرة المزروعة في مياه الخليج العربي. ومن شأن ذلك وضع المنطقة ربّما للمرّة الأولى منذ قيام الثورة الإيرانية في عام 1979 أمام فرصة للتعاون السياسي والتكامل الاقتصادي مباشرة، وعبر تجمّع “البريكس” الذي انضمّت إليه أخيراً إيران وثلاث دول عربية هي السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة.
– خامساً: أدّت هذه المتغيّرات إلى نجاح الشرق الأوسط في استقطاب نسبة عالية من الاستثمارات الدولية بلغت 6 في المئة من حجم هذه الاستثمارات والتوظيفات، أي بزيادة 3 في المئة عمّا كانت عليه في عام 2019.
من هنا السؤال: أين لبنان من كلّ ذلك؟ وأين هو في كلّ ذلك؟
يعاني لبنان من هجرتين متكاملتين في نتائجهما التدميرية التي تصل إذا استمرّتا إلى إلغاء الذات: هجرة منه وهجرة إليه. الهجرة منه لبنانية يأساً من الإصلاح. والهجرة الثانية سوريّة هرباً من الاختناق الأمني والاقتصادي – الاجتماعي.
تشكّل الهجرتان فكّيْ كمّاشة تشدّ على عنق لبنان حتى الاختناق.
إقرأ أيضاً: لو يدري لودريان
لم يزدهر لبنان في الخمسينيات والستّينيات من القرن الماضي بفضل إمكاناته الذاتية (يومها اعتبرته سنغافورة مثلاً يُحتذى فأرسلت وفداً لدراسة التجربة اللبنانية وتقليدها)، بل نجح بفضل الحكمة التي تميّزت بها سياساته في التعامل مع المتغيّرات في الشرق الأوسط (خاصة سلسلة الانقلابات العسكرية وسياسات التأميم ومصادرة الحرّيات).
لن يزدهر لبنان، بل لن يخرج من هوّة الانهيار التي يغرق فيها، إذا لم يتولَّ أمرَه مسؤولون على مستوى عالٍ من الثقافة السياسية، إضافة إلى نظافة الكفّ.