“فشل” الديمقراطية اللبنانية وتعثّرها ليس جديداً. الجديد هو رغبات “تُسرب” عن جموح لاستعادة مواضٍ تتّصل بلحظة “14 آذار” لمواجهة “الحزب”. الرغبات مشروعة ومبرّرة، بل ضرورية ما دام الجسد السياسي اللبناني يتآكل بتمدّد سرطان هذا الحزب.
سقطت الكتل الاجتماعية كلّها تقريباً في لبنان. وسقوطها كان مدوّياً. بعضها انكفأ عن الحياة السياسية. غيرها ما عنده إلا الماضي الذي اختلفت عناصره. أصحاب الرغبات “ينشدون” الكتلة الاجتماعية السنّيّة النهوض والتلاقي. مثل هذه الفرضية لو تحقّقت فإنّها لن تدفع إلا باتجاه حربيّ أهليّ.
استعادة الماضي
غير ذلك، ما كان ماضياً لم يعد متوافراً حالياً. ضمانات عام 2005 ما عادت موجودة. حينها كان الرئيس رفيق الحريري الذي وثق به المسلمون والمسيحيون. وكان البطريرك مار نصر الله بطرس صفير الذي، إلى الثقة به، عُرف عنه صلابته في وجه الاحتلال السوري.
“فشل” الديمقراطية اللبنانية وتعثّرها ليس جديداً. الجديد هو رغبات “تُسرب” عن جموح لاستعادة مواضٍ تتّصل بلحظة “14 آذار” لمواجهة “الحزب”
لبنان الآن بحاجة إلى شعار سياسي يوحّد كتله الاجتماعية. تحرير البلد من الاحتلال السوري مختلف تماماً عن تحريره من الاحتلال الإيراني. الأوّل كان مادّياً وملموساً. الثاني من طبيعة سياسية وله ما له في لبنان، وهو ليس بالشيء الهيّن والسهل. وحتماً، فإنّ الكانتونات والتقسيم ليسا حلّاً.
سيرة “14 آذار” المديدة سبقها “لقاء قرنة شهوان” وأدبه السياسي الوطني. والأخير تقدّمت عليه تجربة مشرقة تمثّلت في “المؤتمر الدائم للحوار”. عليه لم يكن ليأتي المسلمون إلى “لقاء البريستول”، وليخوضوا “معركة الاستقلال الثاني” لو لم تكن ضمانة “ثورة الأرز” من الكنيسة بشخص البطريرك صفير.
على معنى أوضح، لو أنّ ضمانة معركة الاستقلال بالجانب المسيحي كانت الأحزاب كالكتائب أو القوات أو التيار الوطني الحر، أو حتى شخصيات كالتي كانت بقرنة شهوان، لم يكن ليجرؤ وليد جنبلاط على أن يترك ضمانة اسمها التفاهم مع السوريين، ويذهب إلى مسيحيين اختلف معهم في الحرب.
الضمانات المتبادلة
ضمانة الكنيسة هي التي شجّعت وليد جنبلاط. وضمانة الكنيسة هي التي شجّعت رفيق الحريري. والعكس صحيح مئة في المئة. فالكنيسة المارونية التي هي جزء من الكنيسة الرسولية، اعتبرها المسلمون ضمانة صافية، ذلك أنّ صفير بقي متمسّكاً بلبنانية عامّة على الرغم من كلّ الإغراءات التي قُدّمت له من السوريين.
آنذاك جاء البابا إلى سوريا ولم يذهب صفير إلى ملاقاته. وآنذاك أرسل السوريون من يعرض عليه: إخراج سمير جعجع من السجن، وإعادة ميشال عون من الخارج، مع فتح شاشة الـ “إم تي في”، وإقرار ما يراه مناسباً من قانون انتخابات، مقابل التخلّي عن مطلب واحد هو خروج الجيش السوري من لبنان. إلا أنّه لم يوافق على هذه المقايضة وبقي على مطالبته باستقلال لبنان من أجل جميع اللبنانيين وليس من أجل أحد.
أكثر من ذلك، فقد أصرّ ومَن معه في “لقاء قرنة شهوان” على وضع جملة في “البيان التأسيسي” حرفيّتها: لا عودة عن الإصلاحات الدستورية التي أُقرّت في “وثيقة الوفاق الوطني”.
هذه كانت رسالة للمسلمين. رسالة لطمأنتهم. ما يحصل الآن هو العكس من ذلك تماماً. فقد عادت لغة سياسية ترطن بها “مسيحية سياسية” بعينها وتقول للمسلمين “أنتم الفاسدون” ونحن عدنا لنعيدكم إلى الجمهورية الأولى، لأنّ اتفاق الطائف أنزلنا درجة بالنظام وأعطاكم درجة إضافية بالنظام. هذا الفريق المُتشكّل من قوى مختلفة يرى إلى المسلمين السياسيين كلّهم، سُنّة وشيعة ودروزاً، مجموعة لصوص.
مثل هذا الكلام يعني أنّ هؤلاء لم يفهموا ما معنى مصالحة الجبل. واختزلوها فقط بتحالف انتخابي حزبي مع المختارة أدّى إلى أنّ هذه المصالحة لم تكتمل. غير صحيح أنّ مسؤولية عودة المسيحيين إلى الجبل هي مسؤولية وليد جنبلاط لوحده.
هي مسؤولية كنيسة. ومسؤولية سياسية. ومسؤولية اجتماعية. ومسؤولية إنمائية. وبالتالي لا يمكن أن تُختزل هذه المصالحة بعلاقة مع وليد جنبلاط. الدليل الأوضح على ذلك أنّه يوجد نوّاب من القوات اللبنانية وآخرون لعون، من سنة 2005 إلى اليوم، في الجبل، ولم نرَ ندوةً أو خلوةً أو مؤتمراً سنوياً لمتابعة معايير المصالحة.
لبنان الآن بحاجة إلى شعار سياسي يوحّد كتله الاجتماعية. تحرير البلد من الاحتلال السوري مختلف تماماً عن تحريره من الاحتلال الإيراني. الأوّل كان مادّياً وملموساً. الثاني من طبيعة سياسية وله ما له في لبنان
أفكار باسيل النيّرة
لو لم يصعد البطريرك الراعي إلى الجبل قبل يومين ليؤكّد المصالحة، لما سمعنا أحداً يتحدّث عن معناها السياسي في التأسيس للاستقلال الثاني، ولا عن فرادتها في طيّ أكثر الصفحات إيلاماً.
في حال كهذه يسع المرء أن يسعد بما حصل. ذلك أنّ الوزير جبران باسيل زار من قبل قبرشمون وجال على دير القمر بسيّدة التل بحضور وليد جنبلاط وعائلته، أي ولديه الاثنين، ومروان حمادة وكلّ الحزب التقدّمي الاشتراكي، وطلب اعتذاراً عن أحداث 1840 و1860 بالكنيسة، وكادت مطالبه النيّرة أن تعيد الماضي الأهلي الحربي بثوانٍ.
حتى الساعة، هناك في “المسيحية السياسية” من لم يفهم بعد وزن ومعنى الرئيس رفيق الحريري في المعادلة يوم كان حيّاً يُرزق. كان الرجل ضمانة لبنان عند العرب. كان ضمانة سلميّة لا تعرض العسكر والحروب، بل يشدّ العُرى بين لبنان ومحيطه ولغته وثقافته. ولم تكن الدول العربية لتقاتل بالسلاح الأبيض دفاعاً عن مصالحها في لبنان، وعن الأخير للحؤول دون تحوّله ساحة.
الحزب الرابح
الحزب وحده فهم أنّ هذا لن يتكرّر. لا رفيق الحريري عاد موجوداً. ولا ضمانة الكنيسة متوافرة، وهي حيناً تجعل من أحد زعماء المسيحيين “ابناً حبيباً” على ما سمّى الراعي الوزير باسيل.
فقدت الكنيسة القدرة على إعطاء اللبنانيين الضمانات يوم اختزلت طائفة برمّتها في أربعة زعماء. في هذا الاختزال كانت تقول لهؤلاء الأربعة: أنتم الزعماء، اذهبوا واشتغلوا سياسة، وأنا أهتمّ بالشأن الرعوي.
كانت النتيجة: لا هي اهتمّت بالشأن الرعوي ولا هم عرفوا الاشتغال بالسياسة.
إقرأ أيضاً: لبنان في شرق أوسط جديد
اختزال الحياة السياسية بالشأن الانتخابي جعل الحياة الوطنية مُعلّقة على تحالفات لا تدوم أيّاماً. وإنّ غياب رجل بحجم ومقياس رفيق الحريري بالوسط السنّيّ أدّى إلى أنّ المملكة العربية السعودية صارت مضطرّة إلى القتال بالسلاح الأبيض.
وفي الأحوال كلّها ستكون الكلفة على البلد عالية جدّاً.
لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@