سلاح فلسطينيّ ضدّ فلسطين ولبنان

2023-09-14

سلاح فلسطينيّ ضدّ فلسطين ولبنان


لم يفعل أحدٌ بالفلسطينيين وبقضيّتهم العادلة بقدر ما فعلوه بأنفسهم. هذا ما تقوله حروب مخيّم عين الحلوة التي تتنقّل كلّ حين، وكلّما كان لبنان على خطّ النار. 

لا يقول لنا الفلسطينيون المسلّحون ماذا فعل سلاحهم المركون من عين الحلوة إلى قوسايا. منذ أربعين عاماً ولم يصدأ هذا السلاح بعد. لكنّه أيضاً وأيضاً لم يقدّم شيئاً لفلسطين وللفلسطينيين غير الترهيب. 

الأردأ أنّ هذا السلاح الذي انفجر غضباً على الأهل والآخرين استثار كراهية كان يُفترض أنّها طُويت منذ زمنٍ. الكراهية هذه المرّة من عموم لبناني بطبيعته يمينيّ الهوى ضدّ الآخرين. بمعنى أوضح: لا شيء يُوحّد اللبنانيين غير الصراع مع الآخر. 

الكراهية من طبيعة غلبة لبنانية. هم في الأصل إن لم يتكارهوا أو يتحاقدوا بعضهم على بعض يشعرون بأنّ ذواتهم المذهبية والطائفية غير مُتحقّقة. 

لم يفعل أحدٌ بالفلسطينيين وبقضيّتهم العادلة بقدر ما فعلوه بأنفسهم. هذا ما تقوله حروب مخيّم عين الحلوة التي تتنقّل كلّ حين، وكلّما كان لبنان على خطّ النار

وجهة المغامرة والمغايرة

أُريد للمخيّمات الفلسطينية المنتشرة في بلاد الشتات الفلسطيني أن تكون بدلاً من ضائع. بدلاً من وطن اسمه فلسطين. وعلى قول الشاعر الكبير محمود درويش “عَلَى هَذِهِ الأرضِ سَيّدَةُ الأُرْضِ، أُمُّ البِدَايَاتِ أُمُّ النِّهَايَاتِ. كَانَتْ تُسَمَّى فِلَسْطِين. صَارَتْ تُسَمَّى فلسْطِين”. 

أُريد للمخيّمات وآخر رموز الشتات الفلسطيني أن تكون صورةً مصغّرةً لبلاد لم تعرفها عن كثب غالبيّة العرب الداعين إلى تحريرها واستعادتها. 

أُريد لها أيضاً أن تبقى محطة مؤقّتةً (صار عمرها الآن 75 سنةً)، على أهبة العودة، وأن تذكّر دائماً بما حدث وما يجب أن يحدث. 

والحال هذه، فقد اختار “مقاتلو الفلسطينيين” اليوم وجهات مغامرة ومغايرة للعلاقة مع الذات والقضيّة ولبنان، وليس عابراً أنّ ما يخلفونه من أثر مأساوي في صيدا حاضنة الوطنية اللبنانية ستكون له ردّات فعل سوسيولوجية ذات كلفة.

الفلسطينيّون قبل السلاح وبعده

أُريد للمخيّمات أن تكون فلسطين، مؤقّتاً، فلم تكن سوى الفلسطينيين بعد الذي عانوه وذاقوه منذ النكبة حتى اشتباكات مخيّم عين الحلوة الأخيرة في لبنان. 

لم تكن المخيّمات سوى الفلسطينيين الذين حملوا البندقية ونسوا ما حملوه معهم من بلادهم يوم رُحّلوا عنها. 

في منتصف القرن الماضي خرجوا نخبةً، وخرجوا من النور إلى ظلمات العالم العربي. تشهد على ذلك إسهاماتهم في شتّى المجالات وفي كلّ البلاد العربية وغير العربية التي وطأوا أرضها وأقاموا فيها. ساسة وعلماء دين ورجال فكر وشعراء ومصرفيين وكتّاباً ومربّين وموسيقيين ومزارعين مشهوداً لهم ومجلّين كانوا، في مناحي الحياة والثقافة والفكر والاقتصاد والأعمال والاجتماع. بصماتهم حاضرة في بلاد العرب كلّها.

لكنّ السلاح قال كلمته. البندقية محت الكثير ممّا كان برصاصها الطائش. تفريغ الذين خرجوا تاركين خلفهم كلّ شيء، للعمل العسكري برواتب ومحفّزات، في فصائل المقاومة الفلسطينية كافّة، قلَب أحوال الفلسطينيين رأساً على عقب. صار الفلسطينيون معه بغالبيّتهم الغالبة مقاتلين أشدّاء، فقط لا غير. حمَلة سلاح وبنادق وصواريخ. مع الوقت ضلّ السلاح طريقه، أو هذا ما أُريد له. 

اختار “مقاتلو الفلسطينيين” اليوم وجهات مغامرة ومغايرة للعلاقة مع الذات والقضيّة ولبنان، وليس عابراً أنّ ما يخلفونه من أثر مأساوي في صيدا حاضنة الوطنية اللبنانية ستكون له ردّات فعل سوسيولوجية ذات كلفة

القضيّة الموقوفة على رغبات وراثة أبي عمّار

صارت فلسطين قضيّةً عليا، مؤجّلةً، الطريق إليها تمرّ بقضايا لا تُعدّ ولا تُحصى، من أقصى المغرب العربي إلى أقصى الشرق غير العربي، مروراً بالعراق والكويت والأردن وسوريا.

غصن الزيتون يبس. واخضرّت أيام البندقية، بل احمرّت وأينعت شلّالات دمٍ غير إسرائيلي، في مختلف بقاع الأرض. غصن الزيتون يبس في مخيّم عين الحلوة. صار هناك من يعتقد عن وعي أو بغيره أنّه يسعه وراثة قائد الثورة الفلسطينية الشهيد ياسر عرفات (أبي عمّار). 

نحن اللبنانيين أخبر أهل الأرض بالسلاح. تحديداً نحن الأخبر بنتائج حمله والتزيّن به. أليس من عندنا من قال إنّ “السلاح زينة الرجال”. لكنّ الرجال الذين يحملون سلاحاً، زينة مَن أو ماذا؟ 

بعض حمَلة السلاح لا يعرفون أنّ ثقله ليس في وزنه، إنّما في الدم الذي يتركه على الضمير والعقل. وكاتب هذه الأسطر شبّ عن الطوق زمن الحرب وإن كان لـ”تحرير الأرض” من المحتلّ الإسرائيلي، لكن مَن كان في الشطر الآخر من لبنان كان يقاتل لـ”تحرير الأرض” من محتلٍّ آخر وحؤولاً دون أن تكون بلاد الأرز بديلاً عن بيارات الليمون وبساتين الزيتون. لذا وجب الوعي أنّ مَن يقاتل سيَقتل وقد يُقتل.

مجدّداً نحن اللبنانيين أخبر بالسلاح وأوزانه ووزانته، لكنّ الخلاص من الحرب علّم بعضنا أنّ السياسة والحوار أفعل لبناء القضايا العادلة والمُحقّة. 

السلاح في بلادنا صار جزءاً من امتحانات الطلاب في مختلف المراحل، وصار عنواناً عريضاً يحكم الحياة كلّها فيها من الحدود مع فلسطين المحتلّة (إسرائيل)، إلى الحدود مع الجيران داخل الحيّ الواحد والبناية الواحدة.

سلاح بيد كلّ القضايا

صارت طريق فلسطين تمرّمن الأردن والنظام الملكي فيه، ومن جونية على أنقاض اليمين اللبناني والتنوّع، ومن بين خروم الصراعات العربية العربية، والإقليمية – الإقليمية، بل من شباك الصراعات الأهلية والمحلية في الكثير من البلدان.

سلاح متروك على عواهنه، يطلق الرصاص في كلّ اتجاه ولا بوصلة. مع النظام السوري ثمّ ضدّه ثمّ معه. ضدّ الشرعية اللبنانية ثمّ معها. 

مع فريق ضدّ فريق فوق الطاولة، وعلى النقيض تماماً تحتها. مع العراق ضدّ الكويت، ثمّ مع الكويت حتى النصر. ومع مصر ضدّ سوريا أو مع سوريا ضدّ مصر. قبلها مع إيران ثمّ ضدّ إيران. 

صارت فلسطين قضيّةً عليا، مؤجّلةً، الطريق إليها تمرّ بقضايا لا تُعدّ ولا تُحصى، من أقصى المغرب العربي إلى أقصى الشرق غير العربي، مروراً بالعراق والكويت والأردن وسوريا

ضلّ السلاح الفلسطيني وجهته منذ زمن غابر حتى صار وجهة كلّ راغب في زعامة أو انقلاب أو سيطرة أو فلتان. 

صار وجهة كلّ طامح. وصل إلى أن يصير مع عشيرة ضدّ عشيرة، ومع عائلة ضدّ أخرى، والتاريخ اللبناني حافل بالقصص والقتلى والدماء، وشاهد وشهيد.

بعيداً عن “الأغراب”

الصراعات هذه خارج المخيّمات اندلعت مثيلاتها داخل المخيّمات. صار السلاح الفلسطيني يصوَّب نحو فلسطينيين. طرد السلاح “الأغراب”، وصار حكراً على الأهل، ضحايا ومضحّين، قتلى وقاتلين.

ترجح كفّة على كفّة، فلا ترى فوهات البنادق إلا موجّهةً إلى صدور الرفاق والأخوة. حدث هذا داخل “فتح” نفسها، يوم انتفض “أبو موسى”، بإيعاز وطلب ورعاية من سوريا، ضدّ “أبي عمّار”. 

حدث داخل الجبهة الشعبية، فصارت جبهات شعبية وديمقراطية وقيادة عامّة. 

أبعد من ذلك، حدث الأمر تحت الاحتلال، وفوق ما بقي من الأرض في قطاع غزّة، في أغرب انقلاب أمنيّ-عسكري-أهليّ في التاريخ. 

انقلاب تحت الاحتلال أو في ظلاله، وربّما بإغماضة عين منه. محتلّ وسلطتان محتلّتان، متصارعتان ومتنافستان، فوق أرض محتلّة ومطوّقة ومحاصَرة، تُحصى فيها النسمات التي تتحرّك فيها.

ما يجري في عين الحلوة الآن لا يشذّ عن السياق الفلسطيني الآنف الذكر. لدى “حماس” حلّ لم تفصح عنه كما صرّح أكثر من مسؤول فيها أخيراً. لدى “فتح” زعامة ضلّت طريق الحفاظ عليها.

إقرأ أيضاً: عين الحلوة والجنوب في منظومة القواعد الإيرانيّة

داخل المُخيّم وخارجه

هذا في المخيّم. أمّا خارجه، فانتخابات رئاسية حامية وفراغ سياسي وشغور في مناصب يتّسع ويتمدّد. خارج المخيّم أيضاً مبادرات لا تنطلق بغير رصاص فلسطيني، ومشاريع حلّ نهائي عمادها التوطين الذي يمرّ هذه المرّة على المخيّمات فتصير أطلال ذكرى وطن.

خارج المخيّم أيضاً جيش لبناني، كان السلاح الفلسطيني يوماً سبباً في تقسيمه وشرذمته، ومجتمع وُلد موزّعاً على فصائل موزّعة على دول واتّجاهات.

ما وجهة السلاح الفلسطيني الآن: هل وجهته المخيّم عينه، فينتقل من يد إلى يد فيه؟ أم وجهته الجيش، والهدف زجّه في معركة خبِرها سابقاً في نهر البارد؟ أم عينه على الرئاسة؟ أو هو شمولي وأوسع مدى ويرغب في رسم معادلة جديدة في المنطقة؟ أم ما يجري في صلب القضايا تلك كلّها، مجتمعةً ومتفرّقة؟

لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@

مواضيع ذات صلة

هكذا وصلت إسرائيل إلى “البايجرز” واللاسلكيّ

في 7 أيلول الجاري، كان قائد “المنطقة الوسطى” في الجيش الأميركي الجنرال إريك كوريللا في إسرائيل. في اليوم التالي، تمّت عملية مصياف. أكبر عملية إسرائيلية…

من يملك شجاعة الاعتراف “بالهزيمة” التقنيّة؟

.. علينا جميعاً وفي مقدَّمنا الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله أن نمتلك الشجاعة والجسارة للقول إنّ العدوّ الإسرائيلي هزمنا تقنياً ويتفوّق علينا في…

المرشد في استحضار التّاريخ دون المستقبل

“غد بظهر الغيب واليوم لي     وكم يخيب الظنّ بالمقبل ولست بالغافل حتى أرى         جمال دنياي ولا أجتلي لبست ثوب العيش لم أستشِر    وحرت فيه بين…

لبنان… الرأي قبل شجاعة الشجعان

لم يكد دخان ونار التفجيرات الصغيرة في أجهزة النداء القديمة، المعروفة باسم “بيجر” يهدآن، حتى اندلعت موجة نارية جديدة، مستهدفة هذه المرة أجهزة الجوال، وغيرها…