فرنجيّة أو لا أحد


تبدو طفرات السجال الرئاسي اللبناني أشبه بكلام التنجيم، وبرامج التوقّعات المشهورة في البلد. لا منطق للتواريخ التي تُضرب لإتمام الاستحقاق الرئاسي وانتخاب رئيس سوى أنّها عادة لبنانية تملأ الفراغ السياسي القاتل. سمعت من تحدّث عن حزيران الفائت، ونسمع الآن من يطلب منّا إبقاء الأعين مفتوحة على نهايات العام. الأذكى بين منجّمي الرئاسة من يربطون الاستحقاق بمنعطفات إقليمية ودولية. مرّة هو التفاهم الإيراني السعودي، وأخرى مشهديّات قمّة العشرين، وثالثة يتوسّع فيها البيكار لتضمّ بين الأدلّة تطوّرات الحرب الروسية الأوكرانية أو الانتخابات الأميركية أو انقلابات إفريقيا على مستعمِرها الفرنسي السابق. لا حدود لِما يمكن افتراض تأثيره على الاستحقاق الرئاسي اللبناني.

الغائب الأبرز في النقاش هي القواعد البسيطة التي صارح بها الأمين العام للحزب في خطاب علنيّ إحياءً لذكرى حرب تموز 2006. بمنتهى الشفافية قال الرجل إنّ حزبه لا يثق بضمانات سياسية بخصوص الرئيس، أكانت شفهية أم مكتوبة. بل لا تغريه الضمانات حتّى ولو كانت ذات صفة دستورية.

تبدو طفرات السجال الرئاسي اللبناني أشبه بكلام التنجيم، وبرامج التوقّعات المشهورة في البلد. لا منطق للتواريخ التي تُضرب لإتمام الاستحقاق الرئاسي وانتخاب رئيس سوى أنّها عادة لبنانية تملأ الفراغ السياسي القاتل

قال نصرالله: “الضمانة الحقيقية التي نتطلّع إليها ونطلبها هي شخص الرئيس. شخص الرئيس، فلان الفلانيّ الذي نعرف عقليّته ونعرف إرادته ونعرف شجاعته ونعرف وطنيّته ونعرف التزامه، بالنسبة لنا الشخص هو الضمانة، بوضوح، نحن بلد شرقيّ، بالشرق هكذا، تقول لي دولة ونظام ودساتير ومؤسّسات، كلّه مهمّ وعلى رأسي، ولكن الشخص، الشخص أساس، بالنسبة لنا الشخص أساس”.

لنتذكّر إميل لحّود

ولمن يمكن أن يظلّ لديه شكوك في مقاصد نصرالله، تبرّع الرجل بشرح أكثر تفصيلاً عن خلفيّات هذه القناعة لديه ولدى حزبه. قال:

“باختصار أعود لحرب تموز. في حرب تموز كان هناك انقسام سياسي بالبلد (…) ولكن كان هناك ضمانة مهمّة جدّاً بالحكومة اسمها رئيس الجمهورية، على رأس الطاولة كان هناك رئيس جمهورية اسمه العماد إميل لحّود… كان هناك رئيس يقاتل بعض الوزراء الذين يريدوننا أن نستسلم.. شخص الرئيس لحود هو الذي شكّل ضمانة”.

وأضاف نصرالله: “في موضوع انتخاب الرئيس ميشال عون … كان عندنا ثقة بشخصه، وأنا الذي قلت عنه جبل وما زُلت أقول عنه جبل، نتيجة ثقتنا بشخصه أنّ هذا الرجل لن يغدر بنا، لن يطعننا في ظهرنا، لن يتخلّى عن المقاومة، فنحن بأمان. كلّ قصّتنا أنّنا وثقنا بهذا الرجل كشخص، أنّ هذا شجاع، صلب، لا يخون، لا يغدر، انتهينا، ولذلك نحن خلال ستّ سنوات نشعر بأنّ هذه المقاومة ظهرها آمن. خلال ستّ سنوات فخامة الرئيس ميشال عون لم يطعن في ظهر المقاومة”.

ماذا عن ميشال سليمان؟

لمزيد من الإيضاح حول قاعدة الشخص كأساس للثقة، عرّج نصرالله في خطابه المهمّ، على مقارنة بين الرئيسين لحّود وعون وبين الرئيس ميشال سليمان من دون أن يسمّيه حتى، ليُظهر مدى اعتراض الحزب على نوعه الرئاسي، وعلى كامل تلك التجربة، التي يبدو واضحاً أنّه بغير صدد تكرارها.

يقول نصرالله: “أنا أقول لكم بكلّ صراحة، هناك محلّ لم نكن دقيقين فيه، البلد كان على حافة حرب أهلية وكذا، هو الانتخاب الذي حصل بينهما “تبع” المعادلة الخشبية (أي ميشال سليمان)، لكن نحن منسجمين مع أنفسنا الآن تماماً، وهذه المسألة بالنسبة لنا”.

تكشف تصريحات نصرالله أنّ موقف حزبه يقوم على مزيج من السياق الثقافي والبراغماتية السياسية والوعي الدقيق لتجارب الماضي، ويوفّر نافذة مهمّة على التفكير الاستراتيجي للحزب وتداعياته على مستقبل لبنان

بمعنى آخر يقطع نصرالله بشكل حاسم أنّه لن يسمح بتكرار تجربة انتخاب رئيس من طينة ميشال سليمان، أي الرئيس الذي يعرف الحزب أنّه يُضمر حدّاً أدنى من احتمال التمايز عن ميليشيا الحزب ومشروعها. بهذا المعنى من البديهي أنّ مَن يكون هذا هو تقويمه لتجربة ميشال سليمان، أن سيرفض انتخاب العماد جوزف عون اليوم، وهو الذي مارس مقداراً غير مسبوق من الاستقلالية عن ميليشيا الحزب في خلال تجربته العسكرية.

من لم يحتمل ميشال سليمان رئيساً فلن يحتمل جوزف عون أبعد من الأشهر الباقية له في سدّة قيادة الجيش.

فرنجية… وليس جوزف عون

قاعدة الشخص التي وضعها نصرالله، كما قال هو بوضوح، هي الدافع وراء ترشيحه سليمان فرنجية، والتمسّك بهذا الترشيح وعدم فتح أيّ أبواب حقيقية على تغيير رأيه، على الرغم من كلّ المناورات والتمويهات من قبل الحزب، التي قد يبالغ البعض في تفسيرها والبناء عليها. حقيقة الأمر أنّ هذه المناورات أصلاً مصمّمة في عقل الحزب بغرض إرباك الخصوم بتفسيرات وتأويلات أو بهدف توجيه رسائل للحلفاء حين يتطلّب الأمر.

كما إميل لحّود وميشال عون كذلك سليمان فرنجية، “الشخص هو الضمانة”.

لا يعني هذا الكلام بأيّ حال من الأحوال أنّ المعركة الرئاسية قد انتهت، وأنّ الحزب قادر حكماً على فرض مراده على جميع اللبنانيين. ثمّة معارك كثيرة لم يستطِع الحزب أن يأخذها إلى خواتيم تتناسب مع رؤيته ومقصده.

الغرض من العودة إلى هذا الخطاب المهمّ لنصرالله هو الدعوة إلى تصويب النقاش في معركة رئاسة الجمهورية.

تكشف تصريحات نصرالله أنّ موقف حزبه يقوم على مزيج من السياق الثقافي والبراغماتية السياسية والوعي الدقيق لتجارب الماضي، ويوفّر نافذة مهمّة على التفكير الاستراتيجي للحزب وتداعياته على مستقبل لبنان.

إقرأ أيضاً: لا يُحتمل

الشخص هو الضمانة بالنسبة لهم، أي أنّ الشخص هو تجسيد للمشروع الذي يتبنّونه ويدافعون عنه. في المقابل تلعب القوى الأخرى لعبة أسماء لا لعبة مشروع سياسي، وتغرق بالتالي في لعبة التوقّعات لتوقيت إتمام الاستحقاق الرئاسي والمحفّزات الإقليمية والدولية المؤدّية إليه بما لا يتّصل دائماً بمصالح ومستقبل اللبنانيين.

قال الحزب ماذا يريد. فماذا يريد الآخرون؟

لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@

مواضيع ذات صلة

لبنان ضحيّة المفهوم الخاطئ للانتصار!

يُخشى تحوّل لبنان ضحيّة أخرى للمفهوم الخاطئ للانتصار، وهو مفهوم رائج لدى قسم كبير من الأنظمة السياسية في المنطقة. ليس مفهوماً إلى الآن كيف يمكن…

“علوّ اليهود في الأرض”.. كيف نواجهه؟

“إعصار البايجر” هو النقطة الفاصلة في هذه الحرب، الإسنادية في شكلها، الاستنزافية في جوهرها. هو ليس تفصيلاً بسيطاً، بل رأس الجبل من تجويف خطير لخطاب…

بزشكيان ابن مهاباد يفعّل كرديّته في العراق !

لا تطلب إيران المساعدة من أحد لمعالجة مشاكلها الداخلية والخارجية، لكنّها لا تتردّد في فرض خدماتها على الآخرين في الإقليم.   قرار الرئيس الإيراني مسعود…

نكسة لبنان الرقمية

هل يمكن، بالمعنى العسكري، إلحاق الهزيمة بإسرائيل، من طرف “حزب الله”، أو حتى الأم الراعية، إيران، ناهيك، حتى لا ندخل في دائرة المزح، من طرف…