بعد مرور أكثر من قرن على زوال الإمبراطورية العثمانية، لم يجد الشرق الأوسط بعد بديلاً مناسباً للنظام الذي فرضته الإمبراطورية العثمانية. فحتّى نهاية الحرب العالمية الثانية، حكمت سلطات الانتداب البريطانية والفرنسية بلاد الشام والهلال الخصيب، من لبنان إلى العراق. ثمّ خلال الحرب الباردة، شكّل كلّ من الولايات المتحدة والاتّحاد السوفيتي سلطتين إمبرياليّتين على الأنظمة الشرق أوسطية. ثمّ تفكّك الاتحاد السوفيتي في عام 1991، وتضاءل نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة منذ غزو العراق في عام 2003. ومن دون وجود إمبراطورية بشكل أو بآخر، دخلت المنطقة تدريجياً فترة من الاضطرابات، مع انهيار أو زعزعة استقرار الأنظمة في ليبيا وسوريا واليمن وغيرها. باختصار، من دون درجة ما من التأثير الإمبراطوري، أظهر الشرق الأوسط، والعالم العربي على وجه الخصوص “نزعة انشطارية… نحو الانقسام،” كما كتب المستعرب تيم ماكينتوش سميث.
هذا خلاصة تقرير نشره الباحث في “معهد أبحاث السياسة الخارجية”، روبرت د. كابلان*، في مجلة “فورين أفيرز”، معتبراً أنّ “تفشّي العنف وعدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط خلال العقود الأخيرة، سببه افتقارها إلى أيّ نوع من النظام تفرضه إمبراطورية استعمارية غربية أو غير غربية”.
بالنسبة إليه، هذا النوع من الحكم وفّر، وإن قسراً، “أكثر الوسائل عمليةً ووضوحاً للتنظيم السياسي والجغرافي. وقد يكون توجّه دول المنطقة إلى المزيد من الحكم التشاوري، على غرار الإصلاحات في الأنظمة الملَكية التقليدية المحلية في المغرب وعُمان، أفضل أمل لتطوّرها. فما يريده العرب حقيقةً هو الكرامة أكثر من الديمقراطية”.
هو رأي مثير للجدل، ينبّه إلى الخروج من الالتباس الحاصل في أذهان الكثيرين الذي “يربط الإمبراطورية بالهيمنة الأوروبية على مناطق شاسعة من العالم النامي، الأمر الذي شوّه سمعة الغرب إلى الأبد”. بل يشرح أنّ الإمبراطورية اتّخذت العديد من الأشكال غير الغربية، خاصة في الشرق الأوسط، بدءاً من السلالة الأمويّة في دمشق، في القرن السابع، التي أسّست سلسلة من الخلافة الإسلامية وكانت تمسك بسلطات واسعة جدّاً، امتدّت أحياناً إلى البحر الأبيض المتوسط. تبعها في القرون اللاحقة العثمانيون، الذين وسّعوا حكمهم إلى البلقان: “فالسلطنة العُمانية في القرن التاسع عشر امتدّت من الخليج العربي إلى أجزاء من إيران وباكستان، وكذلك شرق إفريقيا المسلمة. بينما فقط في المراحل اللاحقة لعب الأوروبيون دوراً مهمّاً في هذا التاريخ.
يناقش كابلان وجهة النظر السائدة التي تعتبر الافتقار إلى “الديمقراطية” هو سبب عدم الاستقرار في المنطقة، وليس الافتقار إلى “الإمبراطورية”
الإرث الغربيّ.. والبعثيّ
في المقابل يناقش كابلان وجهة النظر السائدة التي تعتبر الافتقار إلى “الديمقراطية” هو سبب عدم الاستقرار في المنطقة، وليس الافتقار إلى “الإمبراطورية”.
ويحاجج بأنّ “الأجزاء الأقلّ استقراراً في المنطقة اليوم هي تلك التي تحمل بعضاً من أوضح بصمات الاستعمار الأوروبي”. فهو يعتبر أنّ “الاستعمار ليس وحده هو السبب، بل الأيديولوجيات الأوروبية الخطيرة التي سادت في أوائل القرن العشرين، منها الماركسية والنازية والقومية، التي انطلقت من الغرب الحديث، وتركت تأثيرها على المثقّفين العرب في الشرق الأوسط وأنتجت أنظمة آل الأسد في سوريا وصدّام حسين في العراق”. ويتابع: “كان هذا هو إرث الإمبريالية العثمانية والفرنسية. كانت الدولتان البعثيّتان القمعيّتان اللتان ظهرتا في سوريا، وخاصة في العراق،من صنع الاستعمار الأوروبي. ولقد غزت الولايات المتحدة العراق في 2003، وكانت النتيجة فوضى. وتدخّلت الولايات المتحدة في سوريا عام 2011، وكانت النتيجة فوضى أيضاً. لكن على الرغم من إلقاء الكثيرين اللوم على السياسة الأميركية في ما آلت إليه الأوضاع في كلا البلدين، إلّا أنّ الإرث البعثي كان محرّكاً لا يقلّ أهمية للأحداث في الحالتين”.
ويصل إلى ليبيا، التي تتكوّن من أقاليم متنافرة دمجها المستعمرون الإيطاليون في دولة واحدة أثبتت أنّها مصطنعة وهشّة إلى درجة أنّه، كما هو الحال مع سوريا والعراق: “كان من المستحيل غالباً حكمها إلا بالوسائل الأكثر عنفاً وتطرّفاً. لذلك عندما تمّت الإطاحة بالديكتاتور الليبي معمّر القذافي عام 2011، بعد 100 عام بالضبط من الغزو الإيطالي لليبيا، تفكّكت الدولة ببساطة. وما شهدته بلدان مثل مصر وتونس خلال الربيع العربي يؤكّد مدى صعوبة استنساخ النموذج السياسي الغربي في الشرق الأوسط بهدف إنشاء نظام غير قمعي. فبدلاً من الديمقراطية، كانت الأوتوقراطية التحديثية، التي هي أيضاً صنيعة الإمبريالية الأوروبية، هي الإجابة الأكثر استجابة لشبح الفوضى”.
في رأي كابلان “كانت أقلّ الأنظمة قمعاً في الشرق الأوسط هي الأنظمة الملكية التقليدية مثل الأردن والمغرب وسلطنة عمان
الأنظمة الملَكيّة هي الأقلّ قمعاً
في رأي كابلان “كانت أقلّ الأنظمة قمعاً في الشرق الأوسط هي الأنظمة الملكية التقليدية مثل الأردن والمغرب وسلطنة عمان. إذ بفضل شرعيّتها التاريخية المتأصّلة كانت قادرة على أن تحكم بالحدّ الأدنى من القسوة على الرغم من طبيعتها الاستبدادية. إنّ حقل التجارب الهوبيزي* في الشرق الأوسط يثبت أنّ النظام الملكي، بالتوازي مع الإمبراطورية، هو أفضل أشكال الحكم طبيعيةً. فظلّت سلطنة عمان طوال عقود من الزمن تعمل كديكتاتورية ملكية مطلقة مع سياسات تقدّمية إلى حدّ ما وحرّيات فردية متواضعة. وفي السعودية ودول الخليج العربي، حيث يوجد عقد اجتماعي حقيقي بين الحاكم والمحكوم، يكفل الحكّام حكماً ذا كفاية ومستقرّاً وانتقالاً سلساً للسلطة، وهو ما يسمح بتطوّر نوعية من الحياة يُحسدون عليها. وفي المقابل، لا يتحدّى السكّان احتكار الحكّام للسلطة. وقد أظهر قادة الخليج حِنكة مكيافيلية. وهم يعتبرون أنّ الفوضى التي أثارتها المحاولات الديمقراطية العديدة للربيع العربي دليل على أنّ الغرب ليست لديه دروس مفيدة يقدّمها لهم”.
إقرأ أيضاً: وزير نرويجي من صُنّاعه: حان وقت “أوسلو” جديد
وبعد سنوات من التقارير المتعمّقة عن العالم العربي لصحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، خلص الصحافي روبرت وورث إلى أنّ “ما يريده العرب حقيقةً هو الكرامة أكثر من الديمقراطية. ولقد وفّرت الإمبراطوريات، سواء كانت عثمانية أو أوروبية، الاستقرار مع القليل من الكرامة. لكنّ الفوضى لا تجلب أيّاً منهما. وربّما يؤدّي المزيد من الحكم التشاوري، على غرار الإصلاحات في الأنظمة الملكية التقليدية المحلية في المغرب وعُمان، إلى إيجاد طريق وسط. وفي هذا الاتجاه يكمن أفضل أمل لاستمرار تطوّر الشرق الأوسط، حتى لو لم يتبع بالضرورة سيناريو غربياً”.
*يشغل روبرت د. كابلان كرسي “روبرت شتراوس-هوبي للجغرافيا السياسية” في “معهد أبحاث السياسة الخارجية”. وهو مؤلّف كتاب “بين الإمبراطورية والفوضى، من البحر الأبيض المتوسط إلى الصين”، الذي تمّ اقتباس هذا المقال منه.
*المنهج الهوبيزي تبعاً لأفكار الفيلسوف السياسي توماس هوبز الذي يعتبر أنّه عندما يتمتّع الناس بحرّية غير محدودة، فإنّ ذلك يؤدّي إلى الفوضى وسيناريو يشبه الحرب.
لقراءة النصّ الأصلي: إضغط هنا