كلّما رحل رفيق، سقطت أعمدة مرحلة من عمر الوطن. هي كلّ الوطن بالنسبة لنا نحن الرفاق. وهل الوطن إلا رفقة ورفاق يسعون إلى وطن؟ هل الوطن إلا قضية يسعى أهلوها من أجلها، فرادى وجماعات، رفاقاً ورفائق؟
إنّه أيلول، شهر الأحزان، شهر الأوجاع وشهر الحقائق. فيه يعود كلّ ما هو حيّ إلى موطنه وأصله: الأوراق إلى التراب، والأحزان والآلام إلى القلب، والرفاق ينضمّون إلى الرفاق.
في ليل شيوعيّ حالك
قبل 41 عاماً انطلقوا دفاعاً عن الجنوب ولبنان والإنسان. كان ذلك في أيلول. واليوم ينطلقون إلى أيلولهم. أيلول الأحمر الذي دعوا له وإليه، لا الأصفر الذي غنّته فيروز. ينطلقون من انطلاقتهم إلى كلّ حياة، ويعودون من حيث أتوا، تاركين خلفهم زهراً يتفتّح حيث وطئت أقدامهم الأرض.
قيل الكثير في وداع الرفيق أبي يوسف. الكثير هذا قليل. لا تُكتب سيرة مناضل بحروف وكلمات، ولا بدموع. وحده غدٌ مشرق يكتب تاريخهم. وحدها قضاياهم تتحدّث عنهم
يتركون وراءهم سيَرهم المفتوحة على كلّ قضية وكلّ نضال. بالأمس قاسم بدران، حسن إسماعيل، جهاد الحجيري، كمال البقاعي، وقاسم بركات. واليوم أبو يوسف جان فواز ابن دير ميماس والجنوب ولبنان والحزب الشيوعي والإنسان وقضاياه في كلّ مكان.
بصمت يرحل، تماماً كما عاش وناضل وقاوم، بصمت له دويّ أين منه دويّ ما كانت تصنع يداه. بهدوء يعيش الرفاق. بعيداً عن الأضواء والمظاهر يسعون ويناضلون. يتفتّحون كما الورد فوق تراب الجنوب ويزهرون في كلّ مكان ويفوحون في أرجاء الدنيا والقلب.
لا تسمع من الرفاق شكوى. ولا يصدر منهم تذمّر. ابتساماتهم تعلو وجوههم. دماؤهم على أكفّهم. أفكارهم تخطو على أقدامهم بين الناس. فينتشرون ويزدادون ويتكاثرون في هذا الليل الشيوعي الحالك، وفي هذه الظلمة المتوحّشة.
جان فواز لم يبدأ نضاله يوم انطلقت جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية “جمول”. بدأ قبل ذلك بكثير. بدأ يوم كان العمل السرّي الأحمر أخطر من إسرائيل لأشخاص وأحزاب وأنظمة ودول وأفكار وعقائد وأيديولوجيات. بدأ من الأرض وإليها عاد مزارعاً يعيد للطبيعة ما فقدته. بدأ يوم كان “العمل الفدائي” بالعمر وأهله “جريمة لا تغتفر”. كان النضال دفاعاً عن لبنان يستأهل “مساءلة قضائية” وسجناً.
من رأى جان على شاشة قبل اليوم؟ من سمعه يتبجّح بتاريخ من المقاومة. تاريخ من الإباء والعنفوان والكرامة. تاريخ من لاءات ما تزال حتى اللحظة في مهبّ كلّ خنوع واستزلام واستسلام وفساد وضياع؟
لا يضيّع الشيوعيون البوصلة. يختلفون مع الكلّ حول كلّ شيء، ويناكفون ويعترضون، لكنّهم لا يمضون إلا في اتجاه واحد، وفي جهة واحدة، هي جهة الإنسان. الإنسان الكادح والبسيط. الإنسان الذي يعمل بصمت ويعيش بصمت. وبصمت يرحل.
هم منه وهو منهم. من سمع بأبي يوسف قبل اليوم؟ من قرأ عن مفخّخ دروب العدوّ والاحتلال باللاءات والمتفجّرات والتطوّرات التقنية والعلمية؟ من رآه منكم؟ حتى إسرائيل لم ترَه. الأكيد أنّها تحسّسته في كلّ مكان. شمّت رائحته حتى أقفل عليها أبواب احتلالها.
بصمت لم يختَره هو رحل. لو قُدّر له أن يختار موته لما اختاره إلا على دروب فلسطين والتحرّر من كلّ احتلال وكلّ نير. وعلى دروب الإنسان من كلّ مكان إلى الإنسان. أو لاختاره على هيئة تظاهرة عمّالية أو مطلبية أو تظاهرة حقّ. حقّ في العيش بكرامة وحقّ في التعبير بحرّية أو بأيّ حقّ من حقوق الإنسان.
لا يضيّع الشيوعيون البوصلة. يختلفون مع الكلّ حول كلّ شيء، ويناكفون ويعترضون، لكنّهم لا يمضون إلا في اتجاه واحد، وفي جهة واحدة، هي جهة الإنسان. الإنسان الكادح والبسيط. الإنسان الذي يعمل بصمت ويعيش بصمت. وبصمت يرحل
وحدها القضايا تكتب سيَرهم
قيل الكثير في وداع الرفيق أبي يوسف. الكثير هذا قليل. لا تُكتب سيرة مناضل بحروف وكلمات، ولا بدموع. وحده غدٌ مشرق يكتب تاريخهم. وحدها قضاياهم تتحدّث عنهم. الرفاق لا يموتون. الرفاق يُبعثون مع كلّ قضية. يُبعثون كلمةً أو سلاماً أو لاءً أو أحداثاً لا تموت. يطلعون لناسهم من قلوبهم، ويطلعون لعدوّهم من “كلّ بيت وحارة وشارع”.
كلّما رحل واحد منهم حضرت جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية “جمول”. كلّما ارتقى رفيق، تنفّس تاريخٌ وفاحت أسرار.
أحسب أنّ أبا يوسف وُلد شيوعياً، وشيوعياً عاش ورحل. وُلد ولاؤه على جبينه وفي يمناه بندقيّة. ناضل عمراً فوق التراب وخلفه. ثمّ حين مُنع مَن مُنع من المقاومة والنضال المسلّح، بقي أبو يوسف مناضلاً في التراب هذه المرّة.
فمَن تفرّغ زمناً لتصنيع العبوات وابتكار الإلكترونيات بمختلف أجهزتها للرفاق والحزب الشيوعي وكلّ من يحمل سلاحاً وقضيّته الجنوب وفلسطين والإنسان، تفرّغ للأرض وقد تحرّرت.
راح جان فواز يملؤها وهي حرّة، وروداً وأزهاراً وأشجاراً وسنابل، وطيوراً تحلّق عالياً ولا تقع، بعدما ملأها وهي محتلّة رعباً ولاءات ومفخّخات وتظاهرات ومطالب وقضايا. لم يعطِ الوطن والأرض والإنسان عمره فحسب، بل قدّم له ابنه، فلذة كبده، عند مثلّث خلدة شهيداً.
زرع جان ابنه في الأرض لاءً. وفي وجه الاحتلال عبوةً. وعند مدخل بيروت سدّاً منيعاً، وفي ضمير كلّ إنسان فكرةً تؤنّب ولا تزول، وعلى حدود العاصمة حصناً حصيناً.
إقرأ أيضاً: بيروت على جدران بيتها
يعود عبوةً ناسفةً
يعود الحاج إلى دير ميماس لا ليرقد في قبر. يعود أبو يوسف إلى دير ميماس وينزرع في التراب عبوةً ناسفةً، تحسّباً لأيّ توغّل إسرائيلي أو مغامرة سوداء.
نَم هانئاً يا رفيق، فلن تمرّ دورية إسرائيلية أو آلية عسكرية صهيونية بعد اليوم في الجنوب، وقد زرعت جسدك في ترابه فكرةً.
إلى اللقاء؟ لا بل إلى الجنوب يا رفيق ننهل من سيرتك الزكيّة.