بوتين… صانع الأساطير.. وقاتلها

مدة القراءة 8 د


لا أحد يعرف ما الذي جعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يجذب، أو ينجذب، إلى شخص من طبيعة يفغيني بريغوجين. الأوّل تضجّ السير عنه بأنّه رجل استخباراتي من طبيعة باردة جداً. قلّما كان للشأن العاطفي حيّز بارز في عيشه. الثاني صاخب وعنيف وانفعاليّ عاطفياً. وسيرته في سنوات السجن التي قاربت عشراً في سجون الاتحاد السوفيتي قبل انهياره تقول هذا وأكثر في هذا الشأن. وفي حال كهذه، كان طبيعياً أن يتجاوز سلوك بريغوجين الخطّ الأحمر.
تجاوز بريغوجين خطّ اللاعودة حين قرّر الانقلاب على سيّد الكرملين. ما حصل سوريالي ويقارب على معنى ما “انقلاب فرانكشتاين على صانعه”. تهوُّر الرجل كان مقبولاً وحتى مدعاة فخر للروس في الحروب الأمنيّة التي خاضها تحت شعار “عظمة روسيا” من القرم إلى إفريقيا، وبينهما ليبيا وسوريا. وقبل كلّ شيء أوكرانيا.
لكن هذا تبدّل رأساً على عقب يوم انقلابه في 24 حزيران بذريعة عداوته لوزير الدفاع ومن قبله رئيس هيئة التصنيع العسكري. ما فعله كان موجّهاً ضدّ بوتين على وجه التحديد. الرئيس الروسي كان الأكثر استيعاباً للرسالة وأدان “خيانة” يفغيني بريغوجين التي عزاها إلى “الطموحات المفرطة والمصالح الشخصية”. حينها تعهّد بـ “سحق التمرّد”.
لم يكن أحد يتصوّر أنّ بوتين قد يلجأ إلى إسقاط طائرة بريغوجين الذي منحه سيّد الكرملين لقب “بطل الاتحاد الروسي”، تقديراً لخدماته في “خدمة الدّولة الرّوسيّة”.

تمرّد فاغنر على القيادة الروسيّة
خلال شهر أيار 2023 رُوّج أنّ رئيس “فاغنر” مع بعض القادة العسكريين والسياسيين الروس يخطّطون “لانقلاب” وأعمال شغب داخل الأراضي الروسية، ثمّ أعلنت “فاغنر” تمرّدها في الأسبوع الأخير من حزيران 2023. آنذاك تحرّكت قوات “فاغنر” تاركةً مواقعها شرق أوكرانيا، ودخلت الأراضي الروسية باتجاه “روستوف”. وسرعان ما استولت على المدينة، ومنها بدأت بالزحف فعليّاً إلى موسكو.

تعود معرفة بريغوجين ببوتين لفترة بعيدة في الزمن، إذ ولد كلاهما في بطرسبورغ

ما أوقف الزحف إلى موسكو أمران:
1 ـ الإعلان الحازم لبوتين بسحق “الانقلاب” مخيّراً عناصر فاغنر بين الانضمام للجيش أو العودة إلى الحياة المدنية.
2 ـ تدخّل الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشنكو وإقناع بريغوجين بأن يتراجع عن تهديداته “باجتياح” موسكو، فانسحبت قواته من روستوف، وأمرها بالعودة إلى ثكناتها.
قضت التسوية أن ينتقل بريغوجين إلى بيلاروسيا ليعيش هناك.

الظهور المفاجىء
على انتقال “الطبّاخ” إلى بيلاروسيا استقرّ وضع روسيا نوعاً ما، لكن من دون انسحاب قوات الطوارىء ومكافحة الإرهاب والتجسّس من الشوارع. لكنّ الأمور عادت إلى الظهور موسومةً بغرابة. فقائد فاغنر وقبل مقتله ظهر مرتين إلى العلن .
1- عبر شريط فيديو مسجّل اعلن فيه وجوده بأفريقيا من دون أن يحدد المكان على وجه الدقة، وليقول بالحرف أنه سيتواجد في اي مكان ليخدم “روسيا العظيمة”.
2- في القمّة الروسية ـ الإفريقية في سان بطرسبرغ آواخر شهر تموز الماضي إلى جانب بوتين خلال إستقبال القادة الأفارقة.

أسئلة بلا أجوبة
مقتل بريغوجين ومساعديه في طائرة واحدة يطرح عدّة أسئلة.
1-هل كانَ مقلته بعلمٍ مُسبق من الولايات المُتحدة وفرنسا وبريطانيا؟ إذ كانت هذه الدّول الـ3 طلبت من رعاياها، قبل 72 ساعة من مقتل بريغوجين، مُغادرة بيلاروسيا، المقرّ الجديد لقوّات فاغنر، بشكلٍ فوريّ. كما أغلقت دول النّاتو المُجاورة لبيلاروسيا بولندا ولاتفيا حدودها معها.
2- ما الذي جعَل خبيراً بالبقاء عسكريّاً من طراز بريغوجين يطمئن إلى خبير في البقاء السّياسيّ مثل بوتين؟ فيصعد إلى الطائرة ومعه أغلب مساعديه، ما جعل فاغنر تتحوّل إلى مجموعة من المرتزقة الأيتام، لا مدير لهم حتّى السّاعة.
3- هل أخرجَ الرّئيس البيلاروسي لوكاشينكو بريغوجين من بلاده بعد ما أصبح عبئاً عليه جرّاء تحرّك قوّات النّاتو والدّفع بأسلحة صاروخيّة وثقيلة إلى دول الجوار؟
4- هل يطمح بوتين إلى تسليم لوكاشينكو الإدارة الفعليّة لفاغنر بعدما أُبعِدَ مُقاتلوها الذين رفضوا الخضوع لشروط الكرملين الذي خيّرهم بين العودة إلى الحياة المدنيّة أو الانضمام لصفوف الجيش الرّوسيّ من روسيا إلى روسيا البيضاء؟
5- هل كانَ الظّهور الأخير لبريغوجين في النّيجر ما جعَل بوتين يُسرِع في تصفيته خوفاً من استقلال فاغنر في أفريقيا وإنشاء شبكةٍ ماليّة واقتصاديّة بعيدة عن أيادي القيصر وأنظاره؟
6- في كلّ الأحوال يبقى السّؤال الأهمّ، ما هو عديد قوّة فاغنر بعد أن كانت 25000 مُقاتل تحت قيادة بريغوجين؟ كم بقيّ منها؟ أما تزال قابلة للاستعمال في ظلّ قيادةٍ جديدة لن تكونَ شبيهةً لبريغوجين بعدما شاهدَ الكلّ مصيره فيما طائرته تهوي من السّماء وترتطمَ بالأرض؟

في أدائه السياسية وعلاقاته الدولية يبدو بوتين أنه ما زال مشدوداً إلى ماضي الإتحاد السوفياتي إنما على قياس أصغر هو روسيا

“طبّاخ بوتين
تعود معرفة بريغوجين ببوتين لفترة بعيدة في الزمن، إذ وُلد كلاهما في بطرسبورغ.
بعد انهيار الإتحاد السوفياتي امتلك كشكاً لبيع النقانق ثمّ مطاعم فاخرة جذبت اهتمام بوتين. في ولايته الأولى، اصطحب الزعيم الروسي الرئيس الفرنسي آنذاك جاك شيراك لتناول العشاء في أحدها، قدَّم “يفغيني” شخصياً طعام العشاء في مطعم نيو آيلاند للرئيسين. وفي عام 2002 استضاف فيه بوتين الرئيس الأميركي “جورج دبليو بوش”، وفي عام 2003 احتفل فيه بوتين بعيد ميلاده أيضاً.
يُطلق عليه لقب “طبّاخ بوتين” لأنّ مطاعمه وشركاته مسؤولة عن تقديم الطعام لضيوف بوتين من القادة والملوك خلال زياراتهم الرسمية لروسيا. ويومياً يقدّم بريغوجين أيضاً طعام الغداء لأعضاء مجلس الوزراء الروسي في مطعمه الواقع داخل مقرّ الحكومة، ويعدّ المورد الرئيسي لغذاء الجيش.

الولادة والنشأة
ولد الصّيدليّ الطّبّاخ يفغيني فيكتوروفيتش بريغوجين في 1 حزيران 1961 في مدينة “لينينغراد” السوفياتية التي أصبح اسمها “سان بطرسبرغ”، وهي المدينة نفسها التي ينحدر منها بوتين.
نشأ يتيماً، إذ توفّي والده وهو صغير، فتزوّجت والدته من اليهودي “صاموئيل زاركوي” الذي ربّاه واعتنى به.
خلال سنوات دراسته كان يفغيني يطمح أن يكون متزلّجاً محترفاً، فتدرّب على يد زوج والدته الذي كان يعمل مدربّاً للياقة البدنية والتزلّج، والتحق بمدرسة داخلية مرموقة لألعاب القوى وتخرّج منها عام 1977، لكنّه لم ينجح في مسيرته الرياضية وأخفق في تحقيق نتائج ملموسة.
دخَل السّجن مرّتين بتهمة السّرقة:
1- عام في تشرين الثّاني 1979، وكان يبلغ من العمر حينها 18، وحُكم عليه بالسجن لمدّة عامين مع وقف التنفيذ.
2- عام 1981 قُبض عليه وهو يسرق شقّة في أحد الأحياء الراقية، وحُكم بالسجن لمدة 12 عاماً. ثمّ أطلق سراحه عام 1988 بعد العفو عنه.

طويت صفحة بريغوجين. لكنّ صفحة بوتين ما زالت مفتوحة، وضحاياها زادوا واحداً. لكنّ المُسلسل مستمرّ

التجربة العملية
بعد خروجه من السجن بدأ بريغوجين في بيع النقانق مع والدته وزوجها في سوق “أبراشاكا” للسلع الرخيصة والمستعملة في مدينة “لينينغراد”.
وعمل في إدارة البقالة حتى 1997، ثمّ أصبح مالكاً لها بنسبة 15?، ثمّ صار مديراً لشركة “كونتراست”، التي كانت أوّل سلسلة متاجر بقالة في سانت بطرسبرغ.
في الوقت نفسه تقريباً انخرط بريغوجين في تأسيس شركة القمار الروسية “سبكتروم” (Spectrum)، بمشاركة زميل دراسته السابق “بوريس سبيكتر” وصديق آخر هو “إيغور غيربينكو”، وعُيّن بريغوجين رئيساً تنفيذياً للشركة، ثمّ أسّسوا أوّل سلسلة كازينوهات في سانت بطرسبرغ.
وابتداء من عام 1995 دخل بريغوجين في مجال المطاعم، وأقنع أحد مدراء شركة “كونتراست” لسلسة محلّات البقالة “كيريل زيمينوف” بفتح مطعم معه، وأسّسا عام 1997 مطعماً ثانياً سميّاه “نيو آيلاند”، وهو مطعم عائم أنفقا فيه 400 ألف دولار أميركي لإعادة تشكيل قارب على نهر “فياتكا” فأصبح أحد أكثر أماكن تناول الطعام شهرة في المدينة.

بوتين الذي يقتل ولا ينفي
مقتل زعيم مجموعة فاغنر، يفغيني بريغوجين، في استهداف طائرته يضم اسمه إلى قائمة روس كانوا مقرّبين من دائرة الرئيس الروسي  فلاديمير بوتين. مقتلة بريغوجين جعلت من الرئيس الروسي يستحق صفة “صانع الأساطير قاتلها”. في الأساس اكتسب سيّد الكرملين صفة “القاتل” التي لم ينفها. هو بطبيعته شخص متقلّب الأمزجة.

إقرأ أيضاً: ماذا يقول ماضي بوتين عن أفعاله؟

في أدائه السياسية وعلاقاته الدولية يبدو بوتين أنّ بوتين ما يزال مشدوداً إلى ماضي الاتحاد السوفياتي إنّما على قياس أصغر هو روسيا. اتُّهم بقتل كل الذين صعدوا معه إلى السلطة، وخصوصاً “الاوليغارشيا” شريكته في التحكّم المالي والنقدي وحتى صياغة التوجّهات السياسية. بعض الإعلام يقول إنّه فعل ذلك ليتخلّص من قيود بدايات سياسته، وبما يمكنّه من تسييل حركته ومواقفه.
طُويت صفحة بريغوجين. لكنّ صفحة بوتين ما زالت مفتوحة، وضحاياها زادوا واحداً. لكنّ المُسلسل مستمرّ.

المصادر: أساس، الواشنطن بوست، السي أن أن، وكالة تاس الروسية، والليبراسيون

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…