تفكّك “عصبيّة” نظام الأسد؟

مدة القراءة 8 د


هل وصلت الثورة أخيراً إلى جبال العلويين، بعد درعا وحمص والغوطة وحلب وإدلب والسويداء؟ وماذا يعني ارتفاع الشعارات السياسية نفسها تقريباً داخل الحاضنة الشعبية اللصيقة بالنظام، والتي أفضت سابقاً إلى حرب دموية ضروس بين معارضين وموالين؟ هل مآل ذلك التحام كلّ الفئات وكلّ الطوائف في ثورة جامعة ضدّ النظام، فيحدث التغيير المنشود على الرغم من أنهار الدماء والدموع على مدى أكثر من عقد من الزمان؟
قد تكون هذه هي لحظة نادرة في الأزمة السورية، حيث تنكشف لعبة النظام في تحريض بعض الطوائف على بعضها الآخر، فينفسح المجال لشيء ما، لكنّ السوريين ليسوا وحدهم في سوريا، إذ بات معهم شركاء في الوطن من وراء القمم ومن وراء البحار، ولهم كلمتهم الفصل في مآل الأمور.
إلا أنّه في هذه الأيام، يستعيد الناشطون العلويون الجدد المناهضون لبشار الأسد، ما كان يعانيه من قبلهم الناشطون العلويون والمسيحيون والسنّيون في بدايات الثورة قبل 12 عاماً. هم ينتمون إلى الطائفة الأقلّوية التي تشكّل عصب النظام منذ أكثر من نصف قرن، أو العصبية المتحكّمة بمصائر المجتمع والدولة، بحسب نظرية ابن خلدون في قيام الدول وسقوطها، حتى إنّ عالم الاجتماع الفرنسي ميشال سورا Michel Seurat (توفّي منتصف الثمانينيات خلال خطفه في بيروت) لجأ إلى مفهوم العصبية الخلدوني لفهم آليّات السلطة التي شيّدها حافظ الأسد منذ انقلابه على رفاقه البعثيين المسمّى حركة تصحيحية عام 1970، وورثها ابنه بشار عام 2000. هي دولة متوحّشة l’État de barbarie، بحسب عنوان مقال سورا الشهير في مجلّة Esprit عام 1983، ونشره آنذاك باسم مستعار، قارئاً فيه الأحداث الدامية في سوريا بين عامَي 1979 و1982، وذروتها مذبحة حماة. وهذه الدولة المتوحّشة تثير التساؤل العميق عمّا إذا كانت سوريا دولةً من دون شعب أو شعباً من دون دولة بحسب تعبير عالم السياسة الفرنسي توماس بياريه Thomas Pierret، وعمّا إذا كانت العلّة موروثة من عهد العثمانيين أم من أيّام الانتداب الفرنسي، وهل هي حالة خاصّة بسوريا أم هي ظاهرة الدول الحديثة في المنطقة ما بعد الاستعمار. لكنّ السلطة السورية مهما كانت طبيعتها لا توفّر أحداً من أدوات الإذلال والقمع والتدجين، حتى لو كان الضحايا من أفراد العصبية العلوية المفترض أنّها عماد المُلك الوراثي في دمشق.

السلطة السورية مهما كانت طبيعتها لا توفّر أحداً من أدوات الإذلال والقمع والتدجين، حتى لو كان الضحايا من أفراد العصبية العلوية المفترض أنّها عماد المُلك الوراثي في دمشق

طوائف وجيوش
وعلى هذا، قد يكون مشهداً غريباً في سوريا الأسد، أن يتململ الناشطون العلويون احتجاجاً، لا فقط على سوء الأحوال المعيشية مع الانهيار النقدي الذي بلغ مستوى جديداً من الانحدار (قرابة 15 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد)، بل أيضاً على سوء إدارة آل الأسد لمجمل الأزمة الوطنية منذ عام 2011 (وكان آخرها الحوار – الفضيحة لبشار الأسد مع قناة سكاي نيوز عربية). بل يوحي خطاب المعارضين الجدد، في مناطق الساحل السوري، وكأنّ الحراك السلمي يستأنف نشاطه بالشعارات نفسها، لكن في مناطق محسوبة على النظام، وموالية له بشدّة، إلى درجة التضحية بالنفس من أجل الحفاظ على الطبيعة الفئوية والطائفية للنظام الحالي، حتى لو أدّى ذلك إلى تقسيم سوريا فعلاً بين أربعة جيوش أجنبية (الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران)، إضافة إلى الميليشيات المتعدّدة الجنسية التابعة لها، وتفكّك الحكم المركزي، وتبعثره بين مناطق مستقلّة ذاتياً، في كلّ الاتجاهات (تنظيم داعش ما يزال يحتفظ بنفوذ محدود في البادية في المنطقة الرمادية بين القوى المتصارعة).
لماذا ينضمّ بعض علويّي النظام الآن، إلى الحراك السنّيّ المتقدّم في الزمان والشعارات والمجابهة، وفي درعا مهد الثورة خصوصاً، بالتزامن مع حراك درزي غير مسبوق بدوره في السويداء، من حيث مدى الاحتجاج، ومستوى مشاركة قياداته الدينية والاجتماعية، وشعاراته السياسية التي لامست ثورة آذار قبل 12 عاماً، أي تنحّي بشار الأسد وإسقاط النظام؟ هل هي إرهاصات الكلام عن ضوء أخضر أميركي لإسقاط النظام، تماماً في الذكرى العاشرة لمجزرة الغوطة الشرقية بالسلاح الكيمياوي؟ يومذاك، تنكّر الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لخطّه الأحمر، وامتنع عن توجيه ضربة ماحقة للنظام بوساطة من روسيا، وتحت ذريعة تسليم النظام سلاحه الكيمياوي مقابل الإبقاء عليه. فهل تستعدّ واشنطن الآن لحصد ثمار سياسة العقوبات التي انتهجتها ضدّ النظام منذ بدء حملات القمع في مواجهة التظاهرات السلمية؟ وهل لهذا علاقة بفتح الملفّ الكيمياوي مجدّداً، والتشكيك في التزام الأسد بالاتفاق بشأن تسليم المخزون الكيمياوي؟

يوحي خطاب المعارضين الجدد، في مناطق الساحل السوري، وكأنّ الحراك السلمي يستأنف نشاطه بالشعارات نفسها، لكن في مناطق محسوبة على النظام، وموالية له بشدّة، إلى درجة التضحية بالنفس من أجله

اندحار الدولة الأسدية
يبدو الحراك الشعبي الحالي الممتدّ على مساحة الجغرافيا السورية أبعد من تحرّك قوى عالمية وإقليمية وفقاً لمصالحها الجيوبوليتيكية الخاصة، من محاولة الولايات المتحدة إضعاف النفوذين الروسي والإيراني بسبب شراكة موسكو وطهران في الحرب على كييف، أو محاولة روسيا وإيران تطبيع العلاقات بين تركيا والنظام السوري تمهيداً لتصفية الجيوب الباقية للمعارضة السنّية، ومن ضمنها محاولة تطبيع العلاقات بين دمشق والدول الخليجية لتمويل إعادة الإعمار، وتناقض ذلك مع المصالح الأميركية وتوجّهاتها. إنّ ما هو ظاهر حتى الآن، هو اندحار الدولة العائلية، وعجزها عن تلبية أبسط مقوّمات العيش حتى لسكّان “سوريا المفيدة”، فضلاً عن عدم قدرتها ولا رغبتها في استعادة الملايين الذين فرّوا من القبضة الغليظة للاستخبارات أو طمعاً في حياة أفضل، فلا مكان أسوأ بالنسبة لهؤلاء من العيش في سوريا. لكن إن لم يكن قد حان وقت تغيير النظام الأسديّ بتشجيع أميركي، فما الذي حرّك الناس في هبّة شعبية متزامنة كالعدوى السائرة، في استنتساخ شبه مطابق لتظاهرات 2011؟ تفسير الحراك الشعبي الجديد يتجاوز التحليلات السياسية الكلاسيكية أو نظريّات المؤامرة التي يلجأ إليها النظام في كلّ سقطة أو نكسة.

افتعال فتنة طائفية
لقد تمكّن النظام من تجاوز أزمته الكبرى، قبل 12 عاماً، حين ضرب الطوائف السورية بعضها ببعض، واستطاع تغيير وجه الصراع، من مطالب شعب مظلوم في وجه سلطة جائرة إلى نزاع بين أكثرية سنّيّة تريد أخذ دورها الطبيعي عبر تهميش الأقلّيات، وأقلّيات تريد الحفاظ على وجودها والمكتسبات، حين نجح في تحريض الناس على حمل السلاح لقتال النظام.
أوّلاً: بإطلاق الجهاديين من السجون الذين أسّسوا الحركات المسلّحة، وأبرزها تنظيم داعش الذي انطلق من سوريا عائداً إلى العراق عام 2012.
ثانياً: بإطلاق الرصاص مباشرة على المتظاهرين السلميين، ما دفع ضباطاً وجنوداً إلى الانشقاق تباعاً.
ثالثاً: وضع السلاح عمداً أمام منازل الناس في القرى والبلدات الثائرة كي يستعملوه لاحقاً ضدّ رجال الأمن والجيش، فتكون خطوة باتجاه العسكرة.
رابعاً: عبر ارتكاب المجازر العشوائية في المناطق السنّية ذبحاً بالسكاكين وقصفاً بكلّ أنواع الصواريخ والبراميل المتفجّرة، وقتل عشرات الآلاف تحت التعذيب في المعتقلات، وتوريط بعض العلويين بها.
خامساً: من خلال الاستعانة بإيران وروسيا وشتّى الميليشيات من أنحاء العالم، لمواجهة ما أسماه الحرب العالمية.

تمكّن النظام من تجاوز أزمته الكبرى، قبل 12 عاماً، حين ضرب الطوائف السورية بعضها ببعض، واستطاع تغيير وجه الصراع، من مطالب شعب مظلوم إلى نزاع بين أكثرية وأقليات

نصر عسكري أجوف
في نهاية المطاف، استطاع الادّعاء أنّه انتصر على الإرهاب السنّيّ ما عدا بعض الجيوب في الشمال الغربي. لكنّ الموالين للنظام رأوا النصر العسكري وسمعوا به لكنّهم لم يشهدوا غنائمه، فلا استقرار ولا رفاهية، فضلاً عن فقدان الحلّ السياسي الذي يتوّج النصر العسكري. انتهت الحرب تقريباً من دون نصر سياسي حقيقي، معترف به من دول العالم. وعليه، سوريا مدمّرة، ولا توجد مساعدات مالية للنظام كي يبني ما دمّره هو على رؤوس الساكنين. القشّة التي قصمت ظهر البعير كما يقال في المثل العربي، أنّ الدول العربية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، أعادت سوريا إلى الجامعة العربية، وحضر بشار الأسد إلى جدّة، وألقى خطابه في القمّة العربية. فما الذي تحصّل من ذلك، وأين الخطأ؟

إقرأ أيضاً: محاولة لفهم بشّار الأسد!

لحظة الانفجار
يكمن الخلل في سرديّة النصر التي انتشرت في الإعلام الممانع، لمّا اعتبروا أنّ الاتفاق الإيراني السعودي برعاية صينية في آذار الماضي، هو نصر مؤزّر لمحور المقاومة. وتبعاً لذلك، فإنّ على الطرف الخاسر، أي دول الخليج، أن تدفع الجزية للطرف الرابح مليارات من الدولارات. هذه السرديّة رفعت الآمال ومستوى التوقّعات لدى الموالين للأسد خلال الأشهر الفائتة. فلمّا تبيّن أنّه كان مجرّد سراب، فلا مساعدات بلا شروط سياسية واقتصادية، واستأنفت الليرة السورية رحلة الهبوط المروّع، وتدهورت أحوال الناس بشكل متسارع، وتفاقمت نزعات التشبيح حيث القوي يأكل الضعيف، وصلت الأوضاع أخيراً إلى لحظة الانفجار. أمّا هل تصل إلى ما هو أبعد من ذلك، فيقترب الحلّ؟ لقد أثبت الحراك السلمي عام 2011، أنّ ما يبدأ بالكلام والصراخ ينتهي في سوريا بقعقعة السلاح. والأمر الخطر في حراك العلويين خاصة، أنّك إذا أردتَ قمع العصبية التي تقوم عليها الدولة، فإنّك بذلك تقضي على الدولة نفسها!

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@

مواضيع ذات صلة

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…