هيروشيما.. قراءة في فيلم “أوبنهايمر”

مدة القراءة 8 د

 

أخذتُ القطار “الرصاصة” من العاصمة اليابانية القديمة “كيوتو” إلى مدينة هيروشيما. وصلتُ إلى محطة قطار هيروشيما مع آلاف الزائرين. كثيرٌ منهم من السيّاح الذين جاؤوا في سياق نموذج جديد للسياحة يمكن تسميته “سياحة السلام”.

الثامنة والربع صباحاً
يتطلّع زوّار هيروشيما إلى رؤية ما شاهدوه في الأفلام والوثائقيّات، المبنى الذي نجا من القنبلة الذريّة، وأجراس السلام التي يدقّها الزوّار تحذيراً من الحرب وتحيّةً للحياة. ويتطلّع الآتون إلى زيارة متحف هيروشيما الذي تتصدّر مدخله صورة للرئيس الأميركي باراك أوباما وهو يكتب كلمة تذكارية عمّا جرى.. وعمّا يجب.
زرتُ متحف هيروشيما التوثيقي. إنّها المأساة في صالة عرض. شاهدت تلك “الساعة” التي أصابتها القنبلة الذريّة، فتجمّد فيها الزمن عند الثامنة والربع صباحاً، ودرّاجات الأطفال التي صمدتْ إحداها في وجه الغبار الذرّي، وملابس الضحايا التي رسمت الدماءُ على خيوطها لوحة مروّعة لتبقى شاهدةً على مأساة الحرب والدمار.

لقاء نادر جدّاً
رتّب لي المسؤولون في محافظة هيروشيما لقاء مع السيّدة “ياسوكو كوندو” التي شاهدتْ القنبلة وحضرتْ الكارثة. وهي واحدة من أشهر الناجين من السلاح النووي.
لم يكن اسم السيّدة “كوندو” جديداً تماماً على مسامعي. فقد شاهدتها على شاشة التلفزيون أثناء زيارة الرئيس باراك أوباما للمدينة.

يتطلّع زوّار هيروشيما إلى رؤية ما شاهدوه في الأفلام والوثائقيّات، المبنى الذي نجا من القنبلة الذريّة، وأجراس السلام التي يدقّها الزوّار تحذيراً من الحرب وتحيّةً للحياة

روت لي السيّدة الناجية من القنبلة النووية مشاهد مفزعة لِما حدث في أوّل 24 ساعة بعد إلقاء القنبلة. لقد قُتل وأصيب أكثر من ربع مليون إنسان. بدتْ السحابة النووية والأمطار السوداء مثل قطعة من الجحيم. إنّه أطول يوم في التاريخ. الناس تتساقط جلودهم وتتمزّق أجسادهم. يمشون في شوارع هيروشيما السابقة وكأنّهم موكب جنائزي شارد أو صفوف متتالية من الأشباح!
قالت لي السيّدة “ياسوكو كوندو”: كانت الحرارة في مركز القنبلة آلاف الدرجات المئوية. كان ذلك الشعور اللانهائي بالحرّ وعدم القدرة على التنفّس مروّعاً. لقد شاهدت طفلاً يسألني عن مياه بعدما أتى عليه العطش. وأمّا آلاف الهيروشيميّين، فقد مدّوا ما بقي من أياديهم إلى الفراغ يلتقطون مياه الأمطار ليطفئوا العطش واللهب. لكنّ السماء لم تمطر مياهاً صافية، بل كانت أمطاراً نووية. مات كلّ من شرب منها. وهكذا من لم يمت بالنار، مات بالماء!
واصلت السيّدة “كوندو” في ألمٍ شديد: لحسن الحظّ أنّني لم أشرب من مياه الأمطار. ولمّا ركضتُ نحو النهر. وجدت أنّ الآلاف هناك.. لكنّ النهر، الذي تساقطت عليه الأمطار النووية، لم ينقذ أحداً. لقد بات مقبرةً جماعية لآلاف الضحايا.
إنّ النهر الذي كان يجري بالحياة، قد بات تابوتاً كبيراً يجري بالموت!

روبرت أوبنهايمر 2023
في صيف 2023 عرفت السينما الأميركية الفيلم العالمي “أوبنهايمر”. إنّه الرجل الذي قاد أخطر مصنع للموت في التاريخ. في ذلك الوقت قبل 80 عاماً قال أحد العلماء إنّ روبرت أوبنهايمر لا يستطيع إدارة كشك هامبرغر. لم يكن ذلك صحيحاً، ففي خلال أقلّ من 3 سنوات نجح أوبنهايمر في صناعة أوّل قنبلة نووية، وقضّ مضاجع البشرية من وقتها.. وإلى نهاية العالم.
درس روبرت أوبنهايمر الكيمياء في جامعة هارفرد، والفيزياء في جامعة كامبريدج، وفي هارفرد كان يعمل “بيرسي بيرغمان” الحائز جائزة نوبل في الفيزياء، وفي كامبريدج عمل تحت إشراف الفيزيائي “جيه طومسون” الحائز جائزة نوبل.
لاحقاً عمل أوبنهايمر في جامعة بيركلي، ثمّ جامعة كالتك، وهي الجامعة التي حاز أساتذتها عدداً كبيراً من جوائز نوبل، ومن بينهم عالم الكيمياء المصري الشهير أحمد زويل. ثمّ عمل أوبنهايمر في مشروع مانهاتن لصناعة القنبلة النووية، وبعد الحرب عمل مديراً لمعهد الدراسات المتقدّمة في جامعة برنستون، حيث كان يعمل ألبرت أينشتاين.
لم يحصل أوبنهايمر على جائزة نوبل، لكنّه عاش حياة علمية رفيعة المستوى، من هارفارد إلى كامبريدج إلى بيركلي إلى كالتك إلى برنستون.. وبينها عمل مديراً لمشروع مانهاتن.
لكن إلى جانب تلك الحياة العلمية الرفيعة واجه أوبنهايمر معضلات متعدّدة، فقد عانى الاتّهامات المتكرّرة من الأجهزة الأمنيّة الأميركية بارتباطه بالحركة الشيوعية، ثمّ عانى احتقار الإنسانية كلّها بعد قنبلتَيْ هيروشيما وناغازاكي، وبعد ذلك عانى في نهاية حياته من العزلة والمرض.. حتى تمّ حرق جثمانه، ونثره عند حافة النهر.
في عام 2022، وبعد 55 عاماً على رحيله، أسقطت الولايات المتحدة كلّ التهم الموجّهة إليه، وكان ذلك تمهيداً لعرض الفيلم العالمي أوبنهايمر للمخرج الشهير “كريستوفر نولان” عام 2023.

القاتل الصغير صار كبيراً
لم يكن أوبنهايمر مثقّفاً بأيّ حال. لا يقرأ الصحف ولا يسمع الإذاعة، حتى إنّه لم يعرف بالأزمة الاقتصادية العالمية في 1929 وانهيار الاقتصاد الأميركي إلا بعد 6 شهور!
لم يكن أيضاً شخصاً ودوداً، بل كان كريهاً، وغير مقبول. وكان مشروع قاتل منذ الشباب. فقد قام بوضع السمّ في الفاكهة لأستاذه في الجامعة، لأنّه تضايق منه، وكاد أن يموت الرجل لولا تراجعه في اللحظة الأخيرة.
حين نجح مشروع مانهاتن، الذي قاده في مختبر “لوس آلاموس” الشهير في ولاية نيومكسيكو، قام أوبنهايمر بالإمساك بالخريطة واختيار هيروشيما وناغازاكي معتبراً أنّهما أنسب المدن لضربهما بالسلاح النووي من دون أن يهتزّ له جفن، ولمّا قامت القنبلتان بقتل أعداد هائلة من البشر، وزراعة المرض في أعداد أخرى، ما تزال تعاني حتى اليوم، كان أوبنهايمر فخوراً بما فعل.
لكنّ الجشع الذي كان عليه أوبنهايمر جعله يفكّر في الحصول على كلّ شيء، والإمساك بكلّ المزايا. فها هو قد نجح في صناعة القنبلة الذرّية ودخل التاريخ، وأصبح أشهر عالم في العالم. لماذا لا يكون أيضاً رجل المبادئ والأخلاق، فيرفع شعارات الحدّ من الأسلحة النووية؟
حسب رواية الفيلم كان صادقاً في ندمه، وحسب الكاتب آرثر ميللر الذي التقاه في أواخر حياته كان تعيساً للغاية، لكنّ القراءة المتأنّية لشخصية أوبنهايمر لا تدلّ على ذلك، والأرجح أنّه أراد أن يزايد على العلماء الذين هاجموا استخدام السلاح النووي، وراح يقف في صفّهم ليتولّى قيادة الدعوة إلى السلام كما قاد الدعوة إلى الحرب.
لقد بدأ أوبنهايمر حياته قاتلاً، وانتهى قاتلاً، لكنّ القاتل الصغير صار كبيراً، وبعدما كان يسعى إلى تسميم أستاذه، راح يمحو مدينتَيْن من الوجود!

هل كان حقّاً أبا القنبلة النوويّة؟
قام فيلم أوبنهايمر بتعميده أباً للقنبلة النووية، لكنّ الاكتشافات العلمية المتعلّقة بذلك كانت سابقة على أوبنهايمر ولم يكن له فضل فيها.
في عام 1938 نجح عالما الكيمياء “أوتوهان” و”فريتز شتراسمان” في تقسيم الذرّة، وفي بداية عام 1939 نجحت جامعة كولومبيا في تنفيذ أوّل عملية انشطار نووي في التاريخ على يد فريق علمي بقيادة “إنريكو فيرمي”، ثمّ نجحت جامعة شيكاغو في العام نفسه في تنفيذ أوّل تفاعل نووي متسلسل من دون إمداد خارجي بالموادّ المشعّة.
حسب تقرير نشره موقع “بي بي سي”، كان أوبنهايمر في ذلك الوقت مشغولاً بالكواكب والنجوم، ولو أنّك سألت أيّ عالم وقتها من هو أبو الانشطار النووي فسيقول على الفور: إنّه إنريكو فيرمي. لكنّ التأسيس النظري للفيزياء النووية كان على يد ألبرت أينشتاين الذي رأى أنّ الطاقة هي المادّة، وأنّه يمكن من مقدار قليل من المادّة إنتاج مقدار كبير من الطاقة.

الخطـأ الكبير
لم يكن أوبنهايمر وحده هو من أخطأ في تدشين عصر الرعب النووي، فقد كان أينشتاين وقّع على العريضة التي قدّمها العالم “ليو زيلارد” إلى الرئيس فرانكلين روزفلت، للبدء بإنتاج القنبلة قبل أن يصل إليها هتلر. ولم يقُم أينشتاين أو ليو زيلارد بإدانة القنبلة إلّا بعد إلقائها على اليابان، بحجّة أنّ اليابان كانت قد هُزمت بالفعل.
كان تقدير بعض العلماء أنّ امتلاك الولايات المتحدة للسلاح النووي سيضمن السلام العالمي، ثمّ رأى علماء آخرون أنّ التوازن في الرعب النووي وامتلاك الاتحاد السوفيتي له سيحقّق السلام.
لقد رأت فرنسا بعد ذلك أنّه يجب أن تمتلك السلاح النووي، ثمّ رأت بريطانيا والصين والهند وباكستان وكوريا الشمالية ذلك. واليوم يرى يابانيون وكوريون جنوبيون ضرورة امتلاك سلاح نووي، ويشهد الشرق الأوسط توابع لذلك الزلزال النووي الذي بدأ عام 1945 ولم ينتهِ بعد.

إقرأ أيضاً: السودان: الاغتصاب والدمار..أسلحة قوات الدعم السريع

إنّ الخطأ الكبير كان من نصيب العلماء الذين لا يفهمون في السياسة، والساسة الذين لا يفهمون في العلم. وضع العلماء كارثة كبرى في أيدي قادة محدودي الثقافة، وأغلب ما يشغلهم هو التصفيق أو التصويت، ووضع الساسة ما امتلكوا من صناعة الموت عند أطراف أصابعهم جاهزين لضغطة زرّ واحدة.
اليوم يكرّر العلماء الجريمة من جديد عبر الأبحاث المروّعة في مجال الهندسة الوراثية، والأكثر ترويعاً في مجال الذكاء الصناعي. إنّهم يكرّرون ما فعل أوبنهايمر، بكلّ صلفٍ وغرور.
لا يكترث هؤلاء بمستقبل الإنسان أو مستقبل الكوكب، بل بالنشر الدولي، وبراءات الاختراع، وحسابات البنوك.
يحاول الباحثون الشرفاء وقف هذا الانتحار العلمي، لكنّ سفينة النهاية قد تواصل الإبحار. وحين يتقاعد هؤلاء العلماء ذات يوم سيزعمون جميعاً وقتها الحكمة، ويعلنون الأسف والندم، ويردّدون مع أوبنهايمر: أصبحت أنا الموت.. مدمّر العوالم!

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: Almoslemani@

 

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…