في 18 تشرين الأول المقبل يُفترض أن يرفع اتفاق فيينا لعام 2015 كلّ القيود عن قطاع التسلّح في إيران شراءً وبيعاً وأبحاثاً وتطويراً لبرنامج الصواريخ الباليستية. وإذا لم تُفرض موانع جديدة، فإنّ إيران تدخل مرحلة جديدة قد تتداعى على اتفاق بكين وطبيعة علاقاتها مع السعودية.
حتى ذلك التاريخ ينصح مصدر سعودي بعدم الركون إلى قراءة يومية ضيّقة للعلاقات مع إيران. صحيح أنّ الآمال التي عُقدت على اتفاق بكين المبرم في 10 آذار بين البلدين لم تتحقّق، غير أنّ الأمر ليس مستغرباً بالنظر إلى طبيعة الخلافات وواقع الظروف الإقليمية والدولية غير الحاضنة لمصالحة بهذا الحجم.
إيران الحريصة على الاتفاق
سال حبر كثير بشأن تأخّر فتح السفارة السعودية في طهران، وفي هذا الوقت سجّل مراقبون للشؤون الإيرانية صدور تصريحات في الأسابيع الأخيرة عن وزارة الخارجية في طهران تبالغ في تأكيد عودة العمل بالقنصلية السعودية في مدينة مشهد وحتى بالسفارة في طهران، فيما الطاقم الدبلوماسي السعودي في المدينتين ما زال يعمل من الفنادق انتظاراً لانتهاء أعمال الترميم الجارية في المبنيَيْن.
الواضح أنّ طهران التي أرسلت، الخميس الماضي، وزير خارجيّتها حسين أمير عبد اللهيان إلى المملكة (بعد شهرين على زيارة نظيره السعودي فيصل بن فرحان لطهران)، معنيّة بتبديد أيّة أجواء يُفهم منها برودة في مفاعيل اتفاق بكين، ومعنيّة أيضاً بالحفاظ على الزخم الشكليّ، حتى لو أنّ المضمون ما زال متواضعاً.
يشدّد المصدر السعودي على قرار المملكة فتح صفحة جديدة مع الجمهورية الإسلامية، وأنّ هذا القرار هو استراتيجي لن تغيّره التفاصيل اليومية. والواضح أنّ من هذه التفاصيل الموقف الذي صدر عن طهران بشأن حقل الدرّة الكويتي السعودي، واللهجة التي اعتمدتها إيران في وعدها بلهجة الوعيد بالعزم على بدء أعمال التنقيب في هذا الحقل.
يشدّد المصدر السعودي على قرار المملكة فتح صفحة جديدة مع الجمهورية الإسلامية، وأنّ هذا القرار هو استراتيجي لن تغيّره التفاصيل اليومية
يضيف المصدر أنّ سياق الأمور لا يهدّد اتفاق بكين الذي وضع لبنات عامّة قابلة للاجتهاد والتفسير لتطبيع العلاقات بين البلدين وقرّر إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. ولئن يذهب البلدان بإيقاع بطيء باتجاه استئناف التمثيل الدبلوماسي من داخل المقرّات الرسمية، غير أنّ إنجاز ذلك في نهاية المطاف يعيد الوضع إلى ما كان عليه قبل قطع العلاقات بين البلدين عام 2016، وهي للتذكير لم تكن علاقات جيّدة.
لطالما سرت شكوك في نوايا إيران من وراء اتفاق بكين وجدّيّتها بتغيير نهجها العقائدي في العلاقة مع السعودية وكلّ بلدان المنطقة. واعتبر تقويم سلبيّ أنّ الاتفاق تكتيكي لا يحظى بإجماع داخل طبقة القرار في إيران وأنّه يشكّل مرحلة لتقطيع الوقت وورقة جديدة على طاولة المفاوضات الإيرانية الأميركية. وقد عزّز من هذه الشكوك استبعاد علي شمخاني من منصبه في أيار الماضي، أو الاستعجال في ذلك، وهو الرجل الذي قاد وفد بلاده في التفاوض مع الوفد السعودي في العاصمة الصينية في آذار، وهو المكلّف أساساً بإدارة الانفتاح على دول الخليج.
مع ذلك لم يصدر أيّ موقف رسميّ يُحسب على القيادة الإيرانية ينال من جدّيّة طهران في الالتزام باتفاق بكين روحاً ونصّاً. وكان لافتاً أنّ اللغة الدبلوماسية الإيرانية المستخدَمة في تناول ملفّات النزاع في اليمن وسوريا والعراق ولبنان بقيت في لغتها، الحيادية على الأقلّ، منسجمة مع ما حمله اتفاق البلدين من مفاعيل للاستغناء عن أبجديّات القطيعة السابقة وأساليبها. وكان لافتاً أنّه لم يصدر عن طهران أيّ تعليقات عدائية حيال كلّ الضجيج المتعلّق بالسعي الأميركي الدؤوب إلى نقل العلاقات السعودية الإسرائيلية إلى مستوى الاتفاقات الإبراهيمية التي أُبرمت مع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان.
العوائق المانعة
يلفت المصدر السعودي إلى أنّ النتائج المعوّل عليها لاتفاق بكين لجهة الدفع بالاستثمارات ورفع مستويات التبادل الاقتصادي تصطدم طبعاً بمستوى التقدّم في سحب فتائل الخلافات الثنائية والإقليمية، لكنّها تصطدم بشكل أكبر بعوائق دولية تحدّد فعليّاً سقف تقدّم علاقات البلدين الاقتصادية. وفيما راج في لحظة التوقيع على الاتفاق منذ خمسة أشهر أنّ البلدين يستطيعان نسج علاقات عاديّة بغضّ النظر عن أزمة الاتفاق النووي بين طهران وواشنطن، فإنّ طرفَيْ صفقة بكين باتا مقتنعين أن لا تقدُّم نوعيّاً في علاقاتهما من دون حلّ النزاع النووي واكتمال شروط عقد اتفاق بشأنه.
يرى المصدر السعودي أنّ الرياض لا تستطيع انتهاك العقوبات المفروضة على إيران ولا خطط أو نوايا لديها لطلب إعفاءات أميركية في هذا الشأن. بالمقابل يلفت مصدر إيراني إلى أنّ طهران ترى أنّ أمر العلاقة بين اتفاقَيْ بكين وفيينا بات منطقياً، ولا تطمح ولا تملك عبر علاقاتها المتوخّاة مع السعودية جرّ المملكة إلى حيّز معادٍ للولايات المتحدة والحلفاء الغربيين. والظاهر أنّ طهران مرتاحة إلى استنتاج أنّ الرياض باتت تشجّع على إنجاز اتفاق دولي بشأن برنامج إيران النووي لِما له من تداعيات مباشرة وإيجابية وحاضنة لاتفاق بكين.
يقرّ المصدر السعودي بتأثير وجود أو غياب اتفاق بين إيران ومجموعة الـ”5+1″ في فيينا على الفوائد الاقتصادية المنتظرة من اتفاق بكين. غير أنّ المصدر يؤكّد تمسّك السعودية بموقف يطالب بأخذ هواجسها وملاحظاتها وتحفّظاتها بعين الاعتبار في أيّ اتفاق يتمّ الإعداد له بين واشنطن وطهران، وتمسّكها أيضاً بالمطالبة بفتح ملفّات أخرى مثل برنامج إيران للصواريخ الباليستية الذي وجب أن يكون من ضمن سلّة دولية لا بنداً يمكن لاتفاق بكين أن يعالجه على المستوى الثنائي.
على الرغم ممّا يمكن أن يعنيه صدور مواقف عن منابر مقرّبة من الحزب في لبنان في الآونة الأخيرة ضدّ السعودية ودول الخليج من مرآة لمزاج إيراني ما، إلا أنّ المهندسين المشرفين على إدارة العلاقات بين البلدين، وعلى الرغم من أخذهم بالاعتبار هذا الواقع، لا يتعاملون إلّا وفق ما يصدر رسمياً ويعبّر عن المواقف الرسمية التي يمكن الاستناد إليها للتعامل مع اتفاق رسميّ بين البلدين رعته الصين. وأهمّ الأدلّة على هذه المقاربة هو التبادل المحسوب للمواقف، التي أتى بعضها حازماً، بشأن النزاع الذي ظهر أخيراً حول حقل الدرّة.
إقرأ أيضاً: لماذا أطلقت السعوديّة إنذارها في لبنان؟
بانتظار ما سينجلي من تفاهمات مصاحبة لاتفاق تبادل السجناء بين واشنطن وطهران، لا يبدو أنّ علاقات الرياض ستتجاوز المستوى الشكليّ. طهران ليست جاهزة لأكثر من ذلك ولا تستطيع أن تتخلّى عن أوراقها للارتقاء بالعلاقة مع الرياض إلى مستويات متقدّمة. المملكة تعرف ذلك وتدرك أنّ زيارات الوزير الإيراني هي ضرورة وحاجة للحفاظ على واجهة شكليّة بانتظار أن تفرج مداولات واشنطن-فيينا عن مشهد آخر. قبل ذلك قد يزور الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي المملكة من دون ضمانات أن لا يظلّ ما هو شكليّ شكلياً. أمّا توقيت الزيارة فتختلف مقاصده قبل 18 تشرين الأول عنها بعده.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@