يقف المرء حائراً أمام تنامي النزوع الفلسطيني نحو الاختلاف الحادّ. لم يعد الأمر، كما تشير العناوين الدارجة، خلافاً بين “فتح” و”حماس” من جهة، وبين باقي الفصائل مع من يختلف معها من جهة أخرى. ولا خلافاً داخل السلطة على من يخلف عباس، ولا خلافاً بين من يقاتل ومن يفاوض، ولا بين مَن مع أميركا ومن مع البريكس!.. ولا حتى على من انبثق ممّن.. البيضة أم الدجاجة.
اللافت في هذا النزوع المتنامي نحو الاختلاف الحادّ أنّ كلّ طرف فيه يذهب إلى الحدّ الأقصى في الاتّهام… والكلمة المحورية هنا هي التخوين. ولو جمعنا بيانات القوى المختلفة لوجدنا بحسبة بسيطة أنّه لم يبقَ فلسطيني واحد نجا من تهمة الخيانة، أي لم يبقَ واحدٌ وطنيّاً، ولو وجد اختراع ينبئ بالميول والأهواء والاتجاهات بصورة مبكرة لاشتراه الفلسطينيون لرصد اختلاف الأجنّة في البطون.
إذا كان الفلسطينيون لا ينفردون عن شعوب الأرض جميعاً بالخلاف والاختلاف وحتى التناقض، فإنّهم ينفردون بخاصية محيّرة، وهي أنّ حاجاتهم من أبسطها إلى أكبرها تحتّم عليهم الاتفاق ولا يفعلون. وذلك بعدما يئس المتدخّلون من إنجاز مصالحة الفصائل، وبعدما تفرّجت كلّ عواصم الكون على انقسامهم واستحالة إنهائه.
الرحلة المأساوية
من أوّل لقاء في القاهرة قبل ستّ عشرة سنة إلى آخر لقاء في العلمين قبل شهور، يواصل الفلسطينيون رحلتهم المأساوية مع الانقسامات والاختلافات الحادّة، وآخر ما حُرّر في هذا الأمر السجال الدائر بين مجموعة تضمّ أسماء بارزة في الحياة الفلسطينية السياسية والثقافية والدبلوماسية، أعلنت بياناً انتقدت فيه ما ورد في خطاب الرئيس عباس أمام المجلس الثوري لحركة فتح الذي اعتُبر بمنزلة إنكار للمحرقة اليهودية، وهو ما حدا بالعالم الغربي إلى مطالبة عباس بالاعتذار مثلما فعل في مرّات سابقة. واستطرد البيان متعدّياً هذا الأمر إلى انتقاد شديد اللهجة لعباس، حتى إنّه وصف أداء السلطة في عهده بـ”الوحشيّ والاستبدادي”.
أحد المقاييس المجمَع عليها لمستوى حضاريّة أيّ شعب وكيان هو كيف يدير اختلافه وكيف يحمي اتفاقه، وهذا ما يزال مفتقداً عند الفلسطينيين ومن يشبههم في عالمنا العربي
لم يمرّ البيان كما كانت تمرّ بيانات كثيرة مثله، بل وأقسى منه. فقد أثار ردّ فعل حادّاً من جانب كثيرين ممّن يعملون مع الرئيس عباس ومن حركة فتح، والعديد من الفصائل بما في ذلك الجبهة الشعبية، وهو ما فتح باباً إضافياً لاقتتال كلامي واتّهامٍ بالخيانة لشخصياتٍ وازنةٍ في مسار الثورة الفلسطينية عبر تاريخها الطويل.
لا يخلو الأمر في هذه الحالة من صوتٍ ثالثٍ يقول كلاماً مختلفاً بكلّ هدوءٍ ومسؤولية وإقناع، ومنه السفير المخضرم والمثقّف عفيف صافية. وأستشهد به كنموذجٍ وليس كحالة منفردة. فكثيرون قالوا مثله. “كنت أحبّ أن أسمع خطاباً آخر للرئيس عباس ليس بشأن الموضوع المثار حول التباس الموقف من المحرقة اليهودية، وإنّما بشأن ما يواجه الشعب الفلسطيني من مشاكل كبرى، بتحليلها وطلب المشورة في كيفية الخروج منها”.
الاختلاف في الرأي والرؤيا سمة إنسانية تجدها في كلّ المجتمعات. إلا أنّها في الحالة الفلسطينية تبدو أكثر حدّة وتطرّفاً. والاختلاف الفلسطيني الحادّ دائماً ما يتمّ تحت أضواء كاشفة بفعل انتشار هذا الشعب في كلّ مكان في العالم، وكذلك بفعل أنّ كثيرين يوظّفونه لتشويه صورة الفلسطينيين.
إقرأ أيضاً: أوسلو… بعد ثلاثين سنة
أحد المقاييس المجمَع عليها لمستوى حضاريّة أيّ شعب وكيان هو كيف يدير اختلافه وكيف يحمي اتفاقه، وهذا ما يزال مفتقداً عند الفلسطينيين ومن يشبههم في عالمنا العربي.
لو حدث هذا السجال الدائر الآن في عهد ياسر عرفات لطلب الموقّعين جميعاً إلى مائدة حوار لا لسببٍ إلّا لأنّهم فلسطينيون.
أخيراً فإنّ المأساة تكمن في الطبقة السياسية التي وصف خالد مشعل صراعها على أنّه على الكعكة. أمّا غالبية الشعب فلا ناقة له ولا جمل.. من غزّة إلى رام الله إلى عين الحلوة، بما يمثّل…