لم يكن ما شاهده العالم عبر وسائل الإعلام من قمع الشرطة الإسرائيلية الوحشي لمئات الإريتريّين المتظاهرين وسط تل أبيب، الذي تخلّله إطلاق نار حيّ، إلّا جزءاً صغيراً لا يُذكر ممّا يتعرّض له الفلسطينيون منذ احتلال أرضهم ويغضّ العالم نظره عنه.
عاشت إسرائيل هذا الأسبوع على وقع تظاهرات ومواجهات غير مسبوقة، أشعل خلالها مئات الإريتريين المهاجرين تل أبيب، ردّاً على عمليات العنف والقمع الوحشية ضدّهم من قبل الشرطة الإسرائيلية التي استخدمت ضدّهم الرصاص الحيّ.
ربّما المفارقة أنّ إطلاق الشرطة الإسرائيلية النار الحيّ على تظاهرة الإريتريين هو الأوّل من نوعه داخل “إسرائيل”، منذ 23 عاماً، أي منذ المجزرة التي ارتكبتها في تشرين الأوّل 2000، وراح ضحيّتها 13 شابّاً من فلسطينيّي 48، حين تظاهروا رفضاً لاقتحام المسجد الأقصى آنذاك، في حين شهدت إسرائيل عشرات إن لم نقُل مئات المسيرات للمعارضة الإسرائيلية لم تُطلَق خلالها رصاصة واحدة تجاههم.
لم يكن ما شاهده العالم عبر وسائل الإعلام من قمع الشرطة الإسرائيلية الوحشي لمئات الإريتريّين المتظاهرين وسط تل أبيب، الذي تخلّله إطلاق نار حيّ، إلّا جزءاً صغيراً لا يُذكر ممّا يتعرّض له الفلسطينيون منذ احتلال أرضهم ويغضّ العالم نظره عنه
لم تتأخّر إسرائيل في إخراج أدوات قمعها ضدّ المتظاهرين الإريتريين، وأظهرت عنصريّتها وخبرتها في القمع والاضطهاد اللذين مارستهما وما تزال تمارسهما ضدّ الفلسطينيين، إذ قرّرت تفعيل الاعتقال الإداري ضدّهم، وقد اعتقلت بالفعل 52 إريتريّاً، وحرّضت ضدّهم على أنّهم خطر داهم على مشروع الدولة اليهودية الخالصة.
إسرائيل وتبديد الصورة
في الحقيقة تتقن إسرائيل دوماً تبديد الصورة التي تسعى إلى ترويجها عن نفسها بأنّها واحة الديمقراطية والحرّيات الوحيدة في الشرق الأوسط، متناسية أنّها تثبت كلّ مرّة أنّها دولة فصل عنصري وأبارتهايد، وأنّ القتل لديها أسهل ما يمكن القيام به، وهذا ما أدلى به رئيس الموساد الأسبق تامير باردو الذي اعترف أنّ إسرائيل تطبّق نظام الفصل العنصري في الضفّة.
لا يتوقّف الأمر عند تصريحات المسؤولين الإسرائيليين السابقين الذين يقرّون بما وصلت إليه إسرائيل من عنصرية وبأنّها باتت تمثّل دولة أبارتهايد، فنتائج الانتخابات الأخيرة جاءت بغلاة اليمين المتديّن المتطرّف إلى الحكم، مثل بن غفير وسموتريتش، وهم الذين كانوا وما يزالون يحرّضون على حرق وقتل غير اليهود، باعتبارهم أقلّ أهميّة ومن دون حقّ مقارنة باليهود، وأعادت إلى رئاسة الحكومة نتانياهو المدان بالاحتيال والرشوة وخيانة الأمانة.
يعيش آلاف الإريتريين في إسرائيل، بعدما وصلوا إليها عن طريق التهريب، وجلّهم يطالب باللجوء السياسي، والمفارقة أنّ هؤلاء هربوا من بلدهم وتوجّهوا إلى إسرائيل التي تقيم علاقات عسكرية قويّة مع النظام الحاكم في بلادهم الذي هربوا منه، وقد توهّموا أنّهم سيجدون في إسرائيل ملاذهم، لكنّهم قد يكونون أدركوا اليوم ولو متأخّرين أنّ السلاح والذخيرة اللذين يُقتلون بهما في بلدهم الأمّ هما السلاح والذخيرة نفساهما اللذان يُقتلون بهما اليوم في تل أبيب.
لقد أعاد قمع تظاهرات الإريتريين إلى الضوء العلاقات شبه السرّية، وتحديداً الأمنيّة والعسكرية، بين إسرائيل والنظام الحاكم في أسمرة. فقد ذكرت صحيفة “هآرتس” أنّ بين إسرائيل وإريتريا علاقات أمنيّة سرّية، وفق التقارير الدولية.
ترجع العلاقة الدبلوماسية الرسمية بين إسرائيل وإريتريا إلى ثلاثة عقود، وذلك بعد استقلال الأخيرة عن إثيوبيا، وتولّي أسياس أفورقي رئاسة البلاد. وحسب التقارير والمعلومات المتداولة، أقامت إسرائيل قاعدة عسكرية في إريتريا، وينفّذ سلاح بحريّتها عمليات في المياه الإقليمية في البحر الأحمر، وتوجد لها مواقع تنصّت تسمح لها بجمع معلومات استخبارية عن دول في المنطقة.
قدّرت إحصاءات وزارة الداخلية الإسرائيلية أنّ حوالي 120 ألف لاجئ من إفريقيا دخلوا إسرائيل في العقدين الأخيرين، وتمّ ترحيل أكثر من نصفهم بعد رفض طلبات اللجوء وإجبارهم على قبول الهجرة الطوعية
خلال السنوات الماضية تسلّل آلاف الإريتريين إلى إسرائيل طلباً للّجوء السياسي، لكنّ ذلك غير ممكن بالنسبة لإسرائيل لأنّها تنظر إليهم بدونيّة وعنصرية، وتعتبر أنّ “الهجرة غير القانونية” من إفريقيا تشكّل “تهديداً حقيقياً لمستقبل إسرائيل” التي يرى نتانياهو وشركاؤه أنّها يهودية خالصة.
لقد تمكّنت إسرائيل في السنوات الماضية من ترحيل 12 ألف لاجئ إفريقي، كما يقول نتانياهو، بعد تقديم حوافز لهم، وهو لا يخفي رغبته وعمله على ترحيل المزيد، ولذلك سارع عقب الاحتجاجات الأخيرة إلى تشكيل لجنة وزارية مهمّتها إعداد خطّة لإخراج جميع المتسلّلين الذين سبق أن وصلوا إلى إسرائيل وطردهم، وقرّر البدء ببناء سياج على طول الحدود الشرقية مع الأردن لـ”ضمان عدم تسلّل” الأفارقة إلى إسرائيل، على غرار السياج الذي أقامته الأخيرة على حدود مصر.
ترفض إسرائيل النظر في طلبات لجوء الإريتريين. ففي عام 2019 رفضت المحكمة العليا الإسرائيلية التماساً للكشف عن وثيقة أعدّتها وزارة الخارجية الإسرائيلية عن وضع حقوق الإنسان في إريتريا، وكان من شأنها أن تشكّل أساساً للنظر في طلبات اللجوء، لكنّ المحكمة تبنّت موقف الحكومة بأنّ كشف الوثيقة سيلحق ضرراً كبيراً بعلاقات إسرائيل الخارجية، في إشارة إلى العلاقات شبه السرّية بين إسرائيل والنظام في إريتريا.
تحوّل ملفّ المهاجرين الإريتريين والأفارقة إلى إسرائيل، إلى قضية سجال ونقاش على غرار كلّ القضايا في إسرائيل منذ تولّي حكومة اليمين الحكم، خاصة مع نيّة الحكومة طردهم وتهجيرهم، وسط مناكفات واتّهامات تتعلّق بالأسباب والأهداف ودوافع وتوقيت تحريك هذا الملفّ.
إبحثوا عن بن غفير
قال عضو الكنيست الإسرائيلي عوفر كسيف إنّ “حكومة بنيامين نتانياهو تتاجر بالأسلحة وتسلّح النظام في إريتريا، الذي تفرّ بسببه وخوفاً منه أعداد كبيرة من المواطنين حفاظاً على حياتهم، وعندما يأتون إلى هنا بصفة لاجئين مضطهَدين، يطلق عليهم النار في شوارع تل أبيب أولئك الذين يزوّدون مضطهديهم بأفضل أسلحة القتل”، مضيفاً: “لا يمكن فصل عنف ميليشيات بن غفير ضدّ الإثيوبيين عن عنفها ضدّ طالبي اللجوء من إريتريا، فهي لا ترى إلّا السواد في أعينها. وهذا العنف لا يمكن فصله عن عنف الاحتلال الذي يتغلغل ويحتلّ إسرائيل في الداخل”.
إقرأ أيضاً: عن اليمين الإسرائيلي “المُمانع” لأميركا…
لقد كشفت التظاهرات في تل أبيب فشلاً استخبارياً وسياسياً إسرائيلياً جرّاء عدم توقّع زخمها وقوّتها وأعدادها، وهذا الأمر عزّز نظرية المؤامرة لدى حكومة نتانياهو والمعارضة، إذ يسود اعتقاد لدى بن غفير ونتانياهو أنّ الشرطة والمخابرات تعمّدوا إخفاء معلومات عن انضمام إريتريين مؤيّدين للنظام الإريتري إلى التظاهرة التي جلّ المشاركين فيها هم من الهاربين من النظام، لكي تحدث فوضى تخرّب على الحكومة وتظهرها عاجزة. أمّا المعارضة الإسرائيلية فتتّهم الحكومة باستغلال الإريتريين لأغراضها السياسية، وبسعيها إلى إبعاد أنظار الجمهور عن تظاهرات الاحتجاج الأسبوعية، وبأنّها تريد التخلّص من الإريتريين، فتركت لهم حرّية الاشتباك والاقتتال حتى تطرد المشاغبين، خاصة أنّ حكومة نتانياهو ترفض أيّ حلول تبقي لاجئين إريتريين في إسرائيل.
يُذكر أنّ عدد اللاجئين الأفارقة في “إسرائيل” في الوقت الحالي 50 ألفاً، بعدما استقرّ في الفترة الممتدّة من 2006 إلى 2012، حسب بيانات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، وذلك قبل أن تقوم إسرائيل ببناء جدار على طول حدودها مع مصر لمنع تسلّلهم، بينما قدّرت إحصاءات وزارة الداخلية الإسرائيلية أنّ حوالي 120 ألف لاجئ من إفريقيا دخلوا إسرائيل في العقدين الأخيرين، وتمّ ترحيل أكثر من نصفهم بعد رفض طلبات اللجوء وإجبارهم على قبول الهجرة الطوعية مقابل 3,500 دولار والانتقال إلى بلد ثالث أو السجن، بينما مُنح مَن بقي إقامةً مؤقّتةً تتجدّد كلّ 3 أشهر.