وُلد جدّي في بداية القرن العشرين (1900). كان يردّد دائماً “كترة الحَكي بتقلّل الهيبة”. تذكّرت قوله أثناء مشاهدتي لمسلسل “الهَيبة”. “جبل” (بطل المسلسل) قليل الكلام. الكلّ يهابُه. وأتذكّره اليوم في متابعتي لأزمة النيجر وتصريحات المسؤولين الفرنسيين. وأتذكّر تسمية أوروبا بـ”القارّة العجوز” التي أطلقها وزير الخارجية الأميركي الأسبق دونالد رامسفيلد في بداية القرن الواحد والعشرين. وكان يقصد تحديداً فرنسا التي عارضت غزو العراق.
فرنسا عاجزة وقليلة الهَيبة
فرنسا اليوم عاجزة وقليلة الهَيبة. آخر عوارض عجزها في النيجر. خلال أسابيع قليلة تراجع موقفها بشكل دراماتيكي ضارباً ما بقي من “هيبة” للقوّة الاستعمارية السابقة في إفريقيا والعالم. كيف؟
منذ الانقلاب العسكري في النيجر (26 تموز الفائت) رفضت فرنسا الاعتراف بالأمر الواقع الجديد في البلاد. اتّخذت موقفاً متشدّداً فيه الكثير من استعلاء دولة الاستعمار السابقة. حاولت القيام بعمل عسكريّ بالوكالة. شجّعت المجموعة الاقتصاديّة لدول غرب إفريقيا (إكواس) على شنّ عملية عسكرية لـ”إعادة الانتظام الدستوري” في النيجر. في البداية تحمّس قادة “إكواس”. أعطوا مهلة أسبوع للانقلابيين لإعادة محمد بازوم إلى السلطة. وضع رؤساء أركان جيوشهم الخطط العسكريّة. وانتظروا الأمر السياسي للتحرّك عسكرياً. لم يصدر الأمر.
فرنسا اليوم عاجزة وقليلة الهَيبة. آخر عوارض عجزها في النيجر. خلال أسابيع قليلة تراجع موقفها بشكل دراماتيكي ضارباً ما بقي من “هيبة” للقوّة الاستعمارية السابقة في إفريقيا والعالم. كيف؟
في هذه الأثناء ركّز الانقلابيون سلطتهم. عيّنوا رئيس حكومة. وشكّلوا حكومة من مدنيين وعسكريين. دعّموا موقفهم بشبه تحالف عسكري أو دفاع مشترك مع انقلابيّي مالي وبوركينا فاسو. وحصلوا على دعم رئيس غينيا الجنرال مامادي دمبويا (الذي وصل إلى السلطة في 2021 بعد انقلاب على الرئيس ألفا كوندي).
في المقابل بدت فرنسا وحيدة ومعزولة في مواجهة أزمة هي الثالثة التي تواجهها في مستعمراتها السابقة في إفريقيا (بعد مالي وبوركينا فاسو). أوروبيّاً، أعلنت ألمانيا وإيطاليا أنّهما مع الحلّ السلميّ للأزمة. من جهتها، اختارت واشنطن الحلّ الدبلوماسي منذ البداية. لم تصف ما حدث بالانقلاب. ولم تفرض عقوبات شاملة على النيجر. إنّما “علّقت بعض برامج المساعدات للحكومة النيجرية”، و”ستتابع تقديم المساعدات الإنسانيّة والغذائية الحيويّة”، كما صرّح وزير الخارجيّة الأميركيّ أنتوني بلينكن الذي أوفد وكيلة وزارته للشؤون السياسيّة ونائبته بالوكالة فيكتوريا نولاند للتفاوض مع الانقلابيين.
انسحاب فرنسا العسكريّ والدبلوماسيّ
في نهاية آب المنصرم، أعطت حكومة نيامي، التي عيّنها المجلس العسكريّ، للسفير الفرنسيّ مهلة 48 ساعة لمغادرة البلاد. رفضت باريس الطلب الصادر عن سلطة “غير شرعية”. بعدئذٍ أعلن المجلس العسكري إلغاء كلّ الاتفاقيات العسكريّة بين النيجر وفرنسا، وطُوّقت القاعدة العسكريّة الفرنسيّة في ضواحي العاصمة نيامي بالتظاهرات الشعبيّة. بعد أيام رضخت باريس للأمر الواقع. يوم الثلاثاء 5 أيلول أوردت صحيفة “لو موند” أنّ وزارة الجيوش الفرنسيّة “بدأت محادثات مع بعض المسؤولين في جيش النيجر لسحب بعض قوّاتها”. برّرت قرارها بعدم قدرة جنودها على تأدية مهمّتهم (محاربة الجماعات الإرهابية) في ظلّ الظروف الراهنة. وبحسب الصحيفة نفسها (في عددها 7 أيلول) سينسحب الجنود الفرنسيون إلى تشاد (حيث لفرنسا قاعدة عسكرية) أو سيعودون إلى فرنسا عبر مرفأ كوتونو في بينين.
إنّه فصل من فصول نهاية الدور الفرنسي في إفريقيا لمصلحة قوى عالميّة أخرى. في مالي وبوركينا فاسو كان الانسحاب لمصلحة روسيا. أمّا اليوم فيبدو لمصلحة الصين.
الصين على خطّ أزمة النيجر
منذ أيام صرّح السفير الصيني في نيامي عقب اجتماع مع رئيس الحكومة علي محمد الأمين زين، الذي عيّنه المجلس العسكريّ، بأنّ “الحكومة الصينيّة تعتزم تأدية دور المساعي الحميدة والوسيط مع الاحترام الكامل لدول المنطقة لإيجاد حلّ سياسي للأزمة في النيجر”.
لا يعني انسحاب فرنسا من النيجر خلاء الساحة للصين. فالولايات المتحدة الأميركيّة حاضرة بقوّة. لها قاعدتان عسكريّتان
لم تتحرّك الصين في بداية الأزمة. كانت تراقب تطوّر الأحداث وتنتظر الوقت المناسب لإعلان دخولها على خطّ الأزمة. فهي لديها العديد من الاتفاقيات والشراكات والاستثمارات في النيجر وشبكة مصالح تشكّل جزءاً من مصالحها في القارّة السمراء:
– شراكة في قطاع الطاقة تعود إلى بداية اكتشاف النفط في النيجر (2011). تستثمر شركتها النفطية الوطنيّة CNCP حقل أغاديم (شرق البلاد) الذي تبلغ احتياطاته 650 مليون برميل. وشيّدت مصفاة نفط في زيندر (في الجنوب) تنتج 20 ألف برميل يومياً. في عام 2019 وقّعت الشركة نفسها مع حكومة النيجر اتّفاقية لبناء خطّ أنابيب نفط بطول 2,000 كلم يمتدّ من حقل أغاديم حتى بينين. وسيكون خطّ الأنابيب الأطول في إفريقيا.
– في عام 2007 وقّعت الشركة الصينيّة الوطنيّة للذرّة اتّفاقاً مع النيجر لاستثمار حقل أزيليك لليورانيوم (غرب البلاد). منذ عام 2015 توقّف العمل في هذا الحقل، ويعيد المراقبون ذلك إلى النفوذ الفرنسيّ.
– تقوم شركات صينيّة بمشروع بناء سدّ كاندادجي على نهر النيجر تبلغ قيمته 1.1 مليار يورو.
الولايات المتّحدة باقية في النيجر
لا يعني انسحاب فرنسا من النيجر خلاء الساحة للصين. فالولايات المتحدة الأميركيّة حاضرة بقوّة. لها قاعدتان عسكريّتان. واحدة في محيط العاصمة نيامي. والأخرى في شمال البلاد مخصّصة لإطلاق المسيّرات الاستطلاعيّة في إطار الحرب ضدّ الجماعات الجهادية في غرب الساحل الإفريقي. بلغت الاستثمارات فيهما مئات ملايين الدولارات. وتقدّم مساعدات إنسانية وغذائية للنيجر تبلغ قيمتها مئات ملايين الدولارات سنوياً.
منذ بداية الأزمة حيّد الانقلابيون الأميركيين. لم يرفعوا شعارات ضدّ واشنطن كتلك التي رفعوها ضدّ باريس. ولم يطالبوا برحيل القوات الأميركيّة كما يطالبون الآن برحيل القوات الفرنسيّة.
إقرأ أيضاً: هل تندلع الحرب في إفريقيا؟
في المقابل تعاملت واشنطن بواقعيّة مع الأزمة منذ إعلان الانقلاب. لم تتّخذ موقفاً حازماً ضدّ الانقلابيين، كما ذكرنا سابقاً. وهو ما يعني أنّها لن تنسحب من النيجر ولن تتخلّى عن نفوذها.
لذلك ستكون النيجر في قلب صراع النفوذ الأميركي – الصينيّ على القارّة السمراء. هل تتنافس الدولتان على مساعدة الدولة الأكثر فقراً في العالم لزيادة النفوذ فيها؟ أم يزيد صراعهما من فقرها ومآسي شعبها؟
من المبكر الإجابة. الحرب الباردة الثانية في بداياتها.
لمتابعة الكاتب على تويتر: Fadi_ahmar@