يقرّ نائب لبناني منخرط بالاتصالات كافّة من أجل إحداث اختراق في الانسداد الذي يشهده مأزق الفراغ الرئاسي، بأنّ ما ينشغل به المشهد السياسي هو أقرب إلى “المناورات المُتقَنَة” منه إلى التحرّك الجدّي لانتخاب رئيس للجمهورية بعدما فتحت مبادرة رئيس البرلمان نبيه برّي إلى الدعوة إلى حوار لسبعة أيام يدعو في نهايتها إلى جلسة لانتخاب رئيس الجمهورية بدورات متتالية، كوّة في جدار التشاؤم.
يتوقّع كلّ فريق سلفاً ردّ فعل خصمه المحتمل إزاء أيّ شعار أو مبادرة يقدم عليها، في سياق اللعب في الوقت الضائع، فيهيّئ جوابه على ردّ الخصم قبل إطلاق مبادرته متّهماً إيّاه بالعرقلة والسلبية، وفي الحالة البائسة الراهنة يصِمه بالتسبّب بإطالة الشغور الرئاسي وبمعاناة اللبنانيين من التدهور المرتقب في الأحوال المعيشية. وتشمل المناورات “المتقنة” هذه تسريب أسماء لمرشّحين على أنّهم خيار ثالث بين سليمان فرنجية وجهاد أزعور، وفي مقدّمهم قائد الجيش العماد جوزف عون الذي عادت أسهمه للارتفاع بعد عشاء الموفد الأميركي آموس هوكستين إلى مائدته الأسبوع الماضي.
الحوار ستار لتظهير اتّفاق خارجيّ يسبقه
فيما تشكّل الدعوة إلى الحوار منذ اقتراب الاستحقاق الرئاسي اللبناني الصيف الماضي لازمة في شعارات قوى الممانعة بقيادة الحزب، يفرز السجال في هذه الدعوة القوى السياسية إلى فريق عريض أولويّته الحوار، وفريق آخر أولويّته انتخاب الرئيس.
يتّفق نواب من اتجاهات مختلفة على القول إنّه يجب عدم إضاعة البوصلة في شأن شعار الحوار حول الاستحقاق الرئاسي لأنّه، حسبما يقول قيادي في “التيار الوطني الحر”، ليس سوى ستار و”تخريجة” لتظهير توافق قد يحصل حول اسم الرئيس. وهذا التوافق إذا حصل ممكن على واحد من مسارين:
– إمّا بين الحزب وبين “التيار الوطني الحر” في الحوار الدائر بين قيادة الأوّل وبين النائب جبران باسيل، على دعم الأخير لسليمان فرنجية، أو مرشّح ثالث، مقابل إقرار مطالب الثاني في شأن اللامركزية الإدارية والماليّة الموسّعة وصندوق إدارة أصول الدولة. وهذا يجري بحثه ببطء شديد وسط إشاعة تسريبات بأنّ تحقيق ما يريد باسيل صعب بنظر “الحزب”.
– أو اتفاق خارجي سعودي إيراني أميركي، يجري تبنّيه على مستوى الدول الخمس المعنيّة بلبنان. وهذا لم يحصل حتى الآن، وفق معطيات قيادات تتابع مع المراجع الخارجية ما يجري في الإقليم، ووسط تناقض الإشارات حول تقدّم التسويات.
تتقاطع المساعي الخارجية لإنهاء الفراغ الرئاسي، فيترقّب كلّ فريق توافقاً دولياً إقليمياً ما، لأنّ الإفراج عن الرئاسة في لبنان جزء من تبادل أوراق التفاوض المتعدّدة والواسعة
بين صيغة برّي وصيغة لودريان “الهجينة”
يصعب في رأي هؤلاء تصوّر انعقاد الحوار، وفق النسخة التي دعا إليها برّي، إذا لم يسبقه اتفاق على اسم الرئيس، ليتمّ تكريس التفاهم عليه تحت عباءة التحاور، ثمّ دخول قاعة البرلمان العامّة لترجمته بالتصويت السرّي. ولذلك يُستبعد أن تلتئم طاولته قريباً، على الرغم من الحديث عن ضغوط خارجية على الفرقاء اللبنانيين، ولاسيما الحزب وبرّي، من أجل تسريع ملء الفراغ الرئاسي. ولذلك تقصّد الأخير ترك بعض النقاط الغامضة في طيّات الدعوة، وأهمّها: هل من ضمانة بعدم إسقاط النصاب في الدورة الثانية للاقتراع في سياق الدعوة إلى جلسة بدورات مفتوحة عقب انتهاء الأيام السبعة من الأخذ والردّ بين ممثّلي الكتل النيابية إذا لبّى جميعهم الدعوة؟
إزاء التداخل بين دعوة برّي وبين مهمّة الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان الذي وعد بتنظيم حوارات بين الفرقاء عند عودته إلى بيروت المتوقّعة بعد غد الإثنين، يتبادل برّي والأوساط الفرنسية الإطراء على دعوة كلّ منهما إلى الحوار:
1- تعتبر الدبلوماسية الفرنسية ما قام به رئيس البرلمان خطوة مساعدة لمسعاها، وتترك أوساط برّي للودريان أن يحاول متمنّيةً أن ينجح لأنّ المهمّ انعقاد الحوار.
2- المصادر الدبلوماسية الفرنسية تشير إلى أنّه مع عدم اكتمال عقد الموافقة على طاولة حوار جامعة، نتيجة رفض حزبَي “القوات اللبنانية” والكتائب وبعض التغييريين والمعارضين المستقلّين، وتردّد “التيار الوطني الحر”، فإنّ لودريان قد يلجأ إلى صيغة هجينة (hybrid)، بأن يلتقي الكتل منفردة، حتى تلك التي رفضت إجابته خطّياً على سؤالَيه في شأن مواصفات الرئيس العتيد، والأولويّات في مهمّاته، ليلعب دور الوساطة ونقل الأفكار بين طاولات أو غرف عدّة حول الأجوبة هذه.
3- لا تستبعد الأوساط المعنيّة بمهمّة لودريان أن يتأجّل حصول تقدّم في دفع الفرقاء إلى التوافق على الانتقال إلى العملية الانتخابية للرئيس، من الأسبوع المقبل إلى زيارة أخرى. وهذا يستبطن بذاته انتظار المزيد من الجهود الخارجية المساعِدة على إنجاح مساعيه. فالرئيس إيمانويل ماكرون يطمح إلى ما وصفته مصادر الإليزيه “تعزيز مهمّة لودريان” خلال لقائه وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في الهند على هامش مشاركتهما في قمّة العشرين التي انطلقت أمس.
التفاهمات السعوديّة الإيرانيّة تحتاج إلى وقت؟
تتقاطع المساعي الخارجية لإنهاء الفراغ الرئاسي، فيترقّب كلّ فريق توافقاً دولياً إقليمياً ما، لأنّ الإفراج عن الرئاسة في لبنان جزء من تبادل أوراق التفاوض المتعدّدة والواسعة. ومحطّات ترتيب علاقات دول المنطقة عديدة، بعدما أشارت المعلومات إلى أنّ زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان لبيروت الأسبوع الماضي، شملت إبلاغ حلفاء طهران بأنّها ستمضي قدماً في محادثات تحسين العلاقة مع المملكة العربية السعودية، بدءاً بتسلّم سفيرَي البلدين مهمّاتهما في الرياض وطهران، وأنّه لا بدّ من مواصلة نهج التهدئة مع المملكة في لبنان، وأنّ الحزب يتهيّأ للتكيّف مع هذا التقدّم المفترض. فالحزب أبلغ من يلزم أن “لا مشكلة لدينا”.
مشكلة حقل الدرّة؟
إذا كان الإفراج عن الرئاسة ينتظر المقايضات الإقليمية، فإنّ ما يدور بين الرياض وطهران جوهري، وسبق لـ”أساس” أن ذكرت أنّ زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي للسعودية ستحمل “مؤشّراً” إلى مدى حلحلة الأزمات في الإقليم، كما تقول أوساط الدبلوماسية السعودية. إلا أنّ الرياض ترى أنّ “معيار” التقدّم في هذه الحلحلة هو معالجة زعم طهران ملكيّتها لثلث حقل “الدرّة” الغازي الواقع في مياه الخليج، فيما تعتبر السعودية والكويت أنّه ملكيّتهما “فقط”. ويزداد الأمر تعقيداً مع إشارات عراقية، بعد إلغاء المحكمة العليا في بغداد اتفاق ملكيّة “خور عبد الله” للكويت، الذي يفتح ملفّ خلاف بين البلدين يُقصد منه حقل الدرّة، كما أوضح “أساس” أمس. وكان لافتاً إصدار مجلس وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي بعد اجتماعه أمس بياناً أكّد فيه أنّ “ملكية الثروات الطبيعية في المنطقة المغمورة المحاذية للمنطقة المقسومة السعودية-الكويتية، بما فيها حقل الدرّة بكامله، هي ملكية مشتركة بين المملكة العربية السعودية ودولة الكويت فقط، ولهما وحدهما كامل الحقوق لاستغلال الثروات في تلك المنطقة”، وشدّد على “الرفض القاطع لأيّ ادّعاءات بوجود حقوق لأيّ طرف آخر”.
لا يعني هذا التعقيد أنّ الإفراج عن الرئاسة مرتبط بمعالجة الخلاف على “الدرّة”، لكنّه يؤخّر توسيع التفاهمات الإقليمية التي تشمل لبنان ويسعى الفرقاء المحليون إلى التهيّؤ للتناغم معها.
إقرأ أيضاً: رئيس للجمهوريّة لحماية الاتّفاق البحريّ مع إسرائيل…
هل يكفي تناغم وودّ هوكستين وبرّي؟
في المقابل، وخلافاً لاعتقاد البعض بأنّ الضغوط الخارجية والتهديد بالعقوبات الغربية ضدّ معرقلي انتخاب الرئيس، ومنهم برّي، أطلقت الموجة الجديدة من الحديث عن الحوار وعن انتخاب الرئيس المقبل، فإنّ وقائع زيارة هوكستين لبرّي توحي بالعكس، حيث ساد الودّ في جلسة “مثمرة ومفيدة”، حول ترسيم الحدود البرّية. فالرجل طالب برئيس للجمهورية كي تجري المفاوضات بوجوده بعدما أبدى استعداداً للتوسّط في شأن طلب لبنان تثبيت تلك الحدود.
لفت نظر من تابع وقائع محادثاته مع رئيس البرلمان، أنّه حين طلبت محطة “إن بي إن” التابعة لبرّي حديثاً مصوّراً من الموفد الأميركي وافق فوراً، واقترح الذهاب إلى استوديوهات المحطة، لكنّ برّي نبّه القيّمين عليها بأنّ مهرجان ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر سينعقد في باحة كبرى خلف مبنى المحطة، ووجود الحشود في المحيط، قبل وبعد تسجيل المقابلة في الاستوديو، قد يعرقل انتقال موكبه من المنطقة، ومن الأفضل إجراء المقابلة في مبنى السفارة. وهكذا كان.
لمتابعة الكاتب على تويتر: ChoucairWalid@