يقول الكاتب الأميركي الساخر مارك توين: “ضع كلّ ما معك من البيض في سلّةٍ واحدة، ثمّ راقبها جيّداً”. على هدي مقولة توين يمضي الحزب. وإذا كانت تلك المقولة تنجح في عالم الاستثمار والمشاريع، فهي أبعد ما تكون عن ذلك في عالم السياسة. وتبعد أكثر فأكثر في عالم الوحل اللبناني، كما في الوحول المحيطة. هنا يصير وضع البيض كلّه في سلّة واحدة مغامرةً غير شجاعة، مغامرةً قد تودي بالأرواح والجماعات تحت نير عصور مقبلة.
يتّسع للجميع؟
يقسّم الحزب لبنان شطرين: معه وضدّه. حين يحمي الوطيس لا مكان للحياد. لذا يحرص على قتل الـ”لا”. اللا محرّمة في قاموس “المجاهدين”. كلّ آخر ضلال. وكلّ ضلال إلى تهلكة.
أمّا كيف؟ فالقصّة تطول. ممنوعة إمكانية قول “لا”. الحزب استراتيجي في هذا: لسانه عربي، وأمّا عقله فهو إيراني وبارد في هذه الناحية.
ممنوع الاختلاف. لا منبت للمعارضة. الأرض حيث الحزب “بور” لا تصلح لزراعة ولا حتى لحرث. لم تكن كذلك يوماً. كان الجنوب يضجّ بالزعامات. البرلمان أيضاً كان يضجّ بهم. ومنذ زمن بعيد، منذ أيام الرؤساء الراحلين أحمد الأسعد، وصبري حمادة وعادل عسيران وكامل الأسعد.
كانوا كلّهم موجودين. كانوا كلّهم مرشّحين. كانوا كلّهم على قدر المسؤولية، وكانوا مؤهّلين. لم يتركوا لنا دَيْناً ولا فساداً أمام ما نرى ونسمع بل نشمّ. لم يتركوا لنا انهياراً أو شبه انهيار. اتّسع لهم الجنوب.
الجنوب يتّسع للجميع. الجنوب هو الجهة القاتلة، ولا بدّ أن يكون فيه الجميع. لم يكن الجنوب فندقاً ولا كانت العلاقة بينهم سمناً على عسل. كانت المناوشات والصراعات على نيران متقطّعة، لكنّها نيران لا تحرق. لا تلغي. لا تختزل.
السلاح في الجنوب يشرذم أمّة ويشظّي وطناً. هو سلاح تحضنه بيئة تحضنها بيئة كبرى وحضن طويل وبارد ينتهي فوق جبال الهيمالايا أو على ثلوج موسكو
في مهبّ السلاح
في الجنوب اليوم نائب واحد يعلوه زعيم أوحد يتكلّم مع سماء. في الجنوب سلاحٌ يملك حزباً. الحزب يملك بيئةً حاضنةً وجماهير جاهزةً على أكمل استعداد. فيه سلاح يقود آلافاً بل ملايين، سلاح يقود طائفةً ويقود إقليماً ويقود منطقة.
السلاح في الجنوب يشرذم أمّة ويشظّي وطناً. هو سلاح تحضنه بيئة تحضنها بيئة كبرى وحضن طويل وبارد ينتهي فوق جبال الهيمالايا أو على ثلوج موسكو. لا مكان لمعارض. لا مكان لصوت آخر. “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.
نسيت: في الجنوب معارضون أيضاً وبمختلف ألوان الطيف. معارضون من دون سقف الزعيم الأوحد والنائب الوحيد. معارضون يتقدّمون ثمّ يتراجعون، أو يعتذرون على ما يمتلئ اليوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعي بأفلام “المعتذرين”، ولا بدّ لهم قريباً من قناة خاصّة.
مُعارضون يُضرَبون ويُمنَعون من العودة إلى قراهم بأساليب شتّى: بعضها المقاطعة الاجتماعية. غيرها اتّهام بالعمالة. بين الاثنين “أسنان الشيعة” على ما يقول المفكّر والمؤرّخ أحمد بيضون. مِن هؤلاء مَن أُقصوا عن جنوب ساهموا في تحريره وأرادوه جزءاً من وطن، وبضعة من أمّة. الأخيرون عليهم لعنات الأرض والسماء لا لشيء، إلّا لكونهم قالوا “الأرض لمن يحيا عليها ولا يتحكّم بها”. هناك معارضون في مهبّ السلاح.
في البيئة الحاضنة لون واحد، ومأتم واحد من أوّلها إلى آخرها. في البيئة الحاضنة أنت فيها وفي كلّ قضايا العالم، مجرّداً من الماء والكهرباء وأبسط مقوّمات العيش. في البيئة الحاضنة أنت في حصار نفسي أوّلاً، وثقافي فكري ثانياً، ثمّ اقتصادي وسياسي وصحّي … إلخ. فيها أنت في لجّة تغرق في لجّة.
ما إن تستيقظ حتى ترى بحراً متلاطماً من الجماعات والإثنيّات والملل، بحراً ينظر إليك بعينين من نار أشعلتها هنا وهناك وهنالك، بحراً لا يبدأ بالأقربين أهل البيئة الحاضنة ولا ينتهي في اليمن “السعيد”.
الدم في كلّ مكان. رقعة “الدم” اتّسعت. صارت رقعته أوسع من أن يحاط بها. من إيران المنبت إلى ميناء الحُديدة، ربّما حيث التصدير إلى ما وراء البحار في المقبل الواعد.
الجنوب يتّسع للجميع. الجنوب هو الجهة القاتلة، ولا بدّ أن يكون فيه الجميع. لم يكن الجنوب فندقاً ولا كانت العلاقة بينهم سمناً على عسل
الإلغاء أخطر
يتخوّف كثر من سلاح الحزب. سلاح الحزب خياراته محدودة. السلاح يتحرّك بأوامر من بعيد. من بعيد غير ثابت. بعيد متحرّك وبراغماتي. ما يخيف هو العقل الإلغائي الذي يقف خلف السلاح ويحرّكه كما في شواهد عديدة ليس هنا موضع سؤالها ومساءلتها، لكنّه في كلّ الأحوال إيراني الهوى والهويّة.
شواهد لا تنحصر في بلاد المصدر ولا تُختتم في بلاد التصدير. عدنا إلى زمن الترانزيت و”صلة الوصل”، لكن من زاوية أخرى. من زاوية تختزل كلّ الزوايا وتلغيها.
الجنوب اليوم بزاوية واحدة. زاوية توقف الوطن كلّه “على إجر ونص”. وطن سيخوض البحر “معه”، شاء الجنوبيون أم أبوا. إن انتصر هذا الوطن يوزّع عليه بعض الغنائم، وإن انكسر فإلى زوال. وطن دستوره الذي كان مرتبطاً بطوائف صار مرتبطاً بحزب واحد ينطق باسم الربّ ولا رادّ لقضاء الله: بحزبه.
إقرأ أيضاً: آمال مدللي: جريمة الوطنيّة اللبنانتيّة …
أي صار الوطن والدستور مرتبطين بالله عن طريق حزب أوحد بظلال كثيرة. إن اعترض الحزب اعترضت طائفة ودخلنا في “المقدّس”. وإن مشى، مشى الوطن برِجل واحدة وبلا عينين أو أنف وفم.
الطائفة الشيعية في خطر. الجنوب في خطر. الوطن كلّه في خطر والدستور والاقتصاد والدور وحتى الموقع.
إلى أين يمضي الحزب؟
هل “وقال من خطر نمضي إلى خطرٍ/ ما همّ نحن وُلدنا بيتنا الخطر”، على ما يقول سعيد عقل؟ ألم يرَ إلى أين أوصلت الأخطار والتنقّل بينها “مخاطرين” سبقوه؟
أما من مقعد صغير في الجنوب يجلس عليه الغد إن أتى؟
لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@