تحرّك المبعوث الأميركي آموس هوكستين في اتجاه لبنان من أجل تفقّد مآل الإنجاز المتمثّل في ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل الذي تحقّق في تشرين الأوّل الماضي. سمح الإنجاز، الذي كان هوكستين خلفه، لإسرائيل باستغلال حقل “كاريش”، فيما بدأ العمل في البلوك اللبناني الرقم 9 من أجل معرفة هل هو قابل للتحوّل إلى حقل يُنتج الغاز أيضاً. لا بدّ من التذكير في كلّ الوقت أنّ ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل لم يكن ممكناً لولا الضوء الأخضر الإيراني، وهو ضوء أخضر ما زالت طهران تريد ثمنه.
يسعى هوكستين، المسؤول الأميركي المختصّ في شؤون الطاقة والمولود في إسرائيل مطلع 1973 من أبوين يهوديَّين أميركيَّين، إلى التأكّد من أنّ الأجواء اللبنانية آمنة في ما يخصّ كلّ ما له علاقة بالحدود البحريّة. المهمّ بالنسبة إلى الإدارة الأميركية، في الوقت الراهن، استغلال الثروة الغازيّة، أكان ذلك في المياه الإسرائيلية أو المياه اللبنانيّة. يعود الاهتمام الأميركي إلى وجود حاجة إلى التضييق على روسيا ومنعها من استخدام سلاح الغاز في المواجهة بينها وبين أوروبا بسبب أوكرانيا. ليس سرّاً أنّ الغرب يريد التحرّر من الغاز الروسي بعدما اكتشف أن ليس في استطاعته التعاطي مع بوتين الذي يوصف في دوائر القرار الأوروبيّة بأنّه شخص “متقلّب”.
الأمن حاجة أميركيّة
كشفت الزيارة القصيرة التي قام بها المبعوث الأميركي للبنان أنّ ثمّة حاجة أميركيّة إلى تعزيز الأجواء الآمنة في لبنان، وذلك على خلفيّة الأزمة السورية من جهة، والتوتّر داخل إيران من جهة أخرى. لا يعود التوتّر في الداخل الإيراني إلى فشل السياسة السوريّة التي اتّبعتها “الجمهوريّة الإسلاميّة” منذ اندلاع الثورة الشعبيّة في هذا البلد في 2011 فحسب، بل يعود أيضاً إلى الصراعات والتجاذبات السائدة في هذه المرحلة بالذات. إنّها مرحلة يستعدّ فيها “الحرس الثوري” للإمساك الكامل بشؤون إيران وكلّ مفاصل السلطة، وذلك قبل غياب “المرشد” علي خامنئي الذي تقدّم به العمر.
كشفت الزيارة القصيرة التي قام بها المبعوث الأميركي للبنان أنّ ثمّة حاجة أميركيّة إلى تعزيز الأجواء الآمنة في لبنان، وذلك على خلفيّة الأزمة السورية من جهة، والتوتّر داخل إيران من جهة أخرى
من أجل حماية إنجازه اللبناني، ليس كافياً أن يتناول هوكستين الفطور مع السفيرة دوروثي شيا في مطعم مطلّ على صخرة الروشة. ليس كافياً أيضاً أن يتوجّه بعد ذلك إلى بعلبك في هيليكوبتر تابعة للجيش اللبناني، لزيارة القلعة والمدينة التي هي أحد معاقل الحزب. يبدو مطلوباً أميركياً، في ظلّ مخاوف معيّنة، أكثر من ذلك. يبدو مطلوباً تحصين الوضع الداخلي اللبناني في الحدود الدنيا خشية حصول اضطرابات داخلية ترتدي شكل “ثورة بيضاء” للمواطن الجائع وتكون لها انعكاسات في الجنوب اللبناني. ثمّة مخاوف أميركيّة حقيقية من تصعيد في الجنوب في ضوء الأزمة التي يمرّ فيها الحزب وجمهوره والوضع غير المريح للنظام الإيراني. بكلام أوضح، هناك تخوّف أميركي من هرب الحزب إلى تصعيد في جنوب لبنان. وهذا ما لا ترغب به واشنطن.
من وجهة نظر أميركيّة، يبدو ضرورياً انتخابُ رئيس للجمهوريّة تمهيداً لتشكيل حكومة جديدة تضمّ عدداً من الكفاءات على أن يشغل وزراء يتمتّعون بحدّ كبير من الخبرة وزارات مفصليّة بما يساعد في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة من المجتمع الدولي.
محاربة “اقتصاد الكاش”
الأهمّ من ذلك كلّه، توجد ضرورة لانتخاب رئيس جديد للجمهوريّة اللبنانيّة من أجل تعيين قائد للجيش مع إحالة العماد جوزف عون إلى التقاعد بعد أشهر قليلة. كذلك، توجد رغبة أميركيّة في وجود حاكم أصيل لمصرف لبنان. ثمّة حرص أميركي على المحافظة على الجيش اللبناني من جهة وعلى إعادة الحياة إلى النظام المصرفي بطريقة سليمة من جهة أخرى. يوجد خوف أميركي كبير من تحوُّل الاقتصاد اللبناني إلى “اقتصاد الكاش”. حذّر من ذلك حاكم مصرف لبنان بالوكالة وسيم منصوري أخيراً، كما حذّر منه منذ البداية رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي الذي يعرف تماماً مدى خطورة “اقتصاد الكاش”، الذي يسهّل تبييض الأموال، على ما بقي من الدولة اللبنانيّة ومؤسّساتها.
تشير المعطيات المتوافرة إلى أنّ فرص انتخاب رئيس للجمهورية تحسّنت، ولو قليلاً، في وقت تحاول إيران جعل السعودية مهتمّة بهذا الموضوع في سياق تمسّكها بالتعاون مع المملكة في إطار البيان الثلاثي السعودي – الصيني – الإيراني. لا تريد إيران الموت لهذا البيان. إلى الآن لم تستجِب الرياض للرغبات الإيرانية، بل تجاهلتها. رفضت الدخول مع طهران في نقاش في شأن الفراغ الرئاسي اللبنانيّ. لكنّ السؤال: هل يمكن للسعودية تجاهل الميل الأميركي إلى ملء هذا الفراغ الرئاسي اللبناني… إلى ما لا نهاية؟
لم يأتِ آموس هوكستين، الذي خدم في الجيش الإسرائيلي بين عامي 1992 و1995، إلى لبنان لترسيم الحدود البرّية مع إسرائيل. مثل هذا الترسيم يمكن أن ينتظر. يبدو الاهتمام الأميركي منصبّاً، في المدى المنظور، على حماية اتفاق ترسيم الحدود البحريّة اللبنانيّة – الإسرائيلية والنتائج التي تحقّقت على أرض الواقع، خصوصاً على صعيد تمكين إسرائيل من تزويد أوروبا بجزء من الغاز الذي تحتاج إليه.
إقرأ أيضاً: الشيعة والاعتذار من لبنان… بدل الانتصار عليه
ثمّة عودة أميركيّة إلى الاهتمام بلبنان. قد تعني هذه العودة أنّ انتخاب رئيس للجمهورية في خلال بضعة أسابيع لم يعُد مستبعداً كلّياً، على الرغم من شوائب كثيرة. من بين هذه الشوائب الغياب السنّيّ عن المعادلة اللبنانيّة وذلك النهج الانتحاري لدى بعض المسيحيين، وهو نهج يعبّر عن انتهازية من النوع الرخيص. لم يستفِد جبران باسيل من تجربة فشل عهد ميشال عون في شيء. ما يزال يعتقد أنّ في الإمكان الدخول في صفقات مع الحزب ومن خلفه إيران حيث يسعى “الحرس الثوري” إلى مزيد من الأخذ والردّ مع الإدارة الأميركيّة في شأن لبنان وغير لبنان…
لمتابعة الكاتب على تويتر: khairallahkhai5@