حين يبدأ النظام السوري بإطلاق النار على المتظاهرين في السويداء بسبب محاولتهم إعادة إقفال مكتب حزب “البعث” في المدينة، كما حصل يوم الأربعاء الماضي، فهذا يعني أنّه يختبر تغيير الاستراتيجية التي اعتمدها منذ اندلاع الاحتجاجات على الأوضاع المعيشية في المحافظة، في 20 آب الماضي، ثمّ في مناطق درعا، التي تطوّرت إلى المطالبة بإسقاط النظام وبتنحّي الرئيس بشار الأسد.
في ظلّ التخبّط الذي يعانيه بمواجهة الاحتجاجات، اعتمد النظام استراتيجية متعدّدة الوسائل في محاولة لاستيعاب الموقف:
1- رهان النظام على عامل الوقت:
– ترك المتظاهرين في كلّ من السويداء ودرعا يواصلون تحرّكاتهم وتجنّب المواجهة معهم، لاعتقاد أجهزة الأمن أنّ إقفال بعض الدوائر الرسمية التابعة لمركز المحافظة وبعض المكاتب الأمنيّة وتلك التابعة لحزب البعث سيستنفد مفعوله لأنّ المواطنين سيحتاجون إلى تلك الدوائر، لا سيما على أبواب الخريف وفتح المدارس. فالنظام يراهن على أن يتعب المحتجّون مع مرور الوقت لحاجة معظمهم إلى كسب العيش والعودة إلى العمل بدل البقاء في الشوارع.
– اتّباع مناورة مزدوجة تقضي بتجنّب الصدام مع دروز السويداء بعدما أخذت تتّسع دائرة الحديث عن سقوط مقولة حماية النظام للأقلّيات في سوريا، من جهة، وإشاعة الاتّهامات والدعاية الإعلامية من قبل جيش النظام الإلكتروني على مواقع التواصل الاجتماعي وفي كتابات مؤيّديه بأنّ المحتجّين في السويداء “انفصاليون ويسعون إلى الإدارة الذاتية”، من جهة ثانية.
تتضافر مجموعة عوامل داخلية وخارجية في إبقاء الأتون السوري مشتعلاً، فيما يواصل النظام غرقه في حالة الانفصال عن الواقع، والاعتماد على الدعم الإيراني بمواجهة مأزق يزداد تعقيداً مع الانهيار الاقتصادي
2- شقّ القيادة الدرزية وإطفاء انتقادات العلويين:
– حاول الحؤول دون امتداد الاحتجاجات إلى مناطق في وسط سوريا بعدما خرجت تظاهرات تضامن مع السويداء ودرعا في ريف حلب وحماة ومناطق أخرى شمال غرب سوريا، وفي الساحل السوري والمناطق العلوية، وبعدما ظهر بعض الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي ينتقدون النظام بسبب غياب الأمن الاجتماعي وتردّي الأوضاع المعيشية وانتشار الفقر والعوز جرّاء الأزمة الاقتصادية الخانقة. واستدعت أجهزة الأمن هؤلاء وسُجن بعضهم. وكان هجوم بطائرة مسيّرة شنّه مقاتلون من “هيئة تحرير الشام” (النصرة) على مناطق في الساحل شملت القرداحة قرية آل الأسد، أسعف النظام في إخماد الاعتراضات العلَوية باستخدام “تابو” المسّ برمزية العائلة كحامية للطائفة.
– عاد إلى أسلوب شقّ القيادة الروحية الدرزية التي توحّدت على دعم الاحتجاجات كما ظهر في بيانات ومواقف مشايخ العقل الثلاثة، حكمت الهجري، حمود الحناوي ويوسف جربوع بعد أيام قليلة على اندلاع الاحتجاجات. فقد أعقب ذلك ضغوط من الرموز الأمنيّة على الشيخ جربوع المعروف باحتفاظه بعلاقات ودّية مع القيادة السورية، وزاره موفد للأسد، آخر الشهر الماضي، وأعقبت ذلك تصريحات له بأنّ بعض الحراك في السويداء يرفع شعارات خاطئة، قاصداً تلك الموجّهة ضدّ الرئيس السوري، مكتفياً بالمطالبة بتحسين الأوضاع الاجتماعية وبفتح معبر بين السويداء والأردن. وتجاوب مع دعاية النظام التي وصمت المحتجّين بالانفصاليين برفضه الانفصال. هذا على الرغم من رفع المتظاهرين شعار “سوريا واحدة”، وتواصلهم مع عشائر درعا التي أرسلت وفوداً منها إلى السويداء للمشاركة في تظاهرات الاحتجاج. لكنّ هذا لم يمنع المحتجّين من أن يقفلوا مركزين لحزب البعث في قريتين قرب السويداء، بعد إطلاق النار عليهم أثناء محاولتهم إعادة إقفال مركز له في المدينة قبل ثلاثة أيام.
هل تنجح هذه الاستراتيجية في استيعاب الاحتجاجات في كلّ من السويداء ودرعا، وتحول دون اتّساع بعض مظاهرها في مناطق أخرى؟
شحّ الموارد الماليّة لأجهزة الأمن
تتضافر مجموعة عوامل داخلية وخارجية في إبقاء الأتون السوري مشتعلاً، فيما يواصل النظام غرقه في حالة الانفصال عن الواقع، والاعتماد على الدعم الإيراني بمواجهة مأزق يزداد تعقيداً مع الانهيار الاقتصادي وهبوط سعر صرف الليرة السورية، وانعدام قدرة النظام على توفير الحدّ الأدنى من الخدمات في سائر المناطق التي سبق أن سيطر عليها تباعاً منذ عام 2015، بحيث تقتصر قدرته على توفير بعض أبسط مقوّمات الحياة لقلّة من الشرائح الاجتماعية الموالية القاطنة في دمشق، من دون أولئك المتواضِعي الدخل في ضواحيها وأحيائها. ويمكن الحديث عن انحسار قدرة النظام على قمع الاحتجاجات في السويداء ودرعا واقتصار قبضته الأمنيّة على العاصمة لأسباب عدّة:
– شحّ موارد الدولة السورية المالية التي كانت تغذّي رواتب الميليشيات التابعة له، على الرغم من المداخيل التي أتاحها انتشار تصنيع وإنتاج الكبتاغون والمخدّرات، والتي تقتصر الإفادة منها على فئات معيّنة. وبالنسبة إلى السويداء، زاد ذلك من صعوبة رشوة البدو في المناطق الواقعة بينها وبين درعا لافتعال اشتباكات بسبب خلافات تقليدية على رعي الماشية في ممتلكات تعود للدروز. وهذا الأسلوب كان يُعتمد سابقاً في تطويع أهالي السويداء.
يحاول النظام التحوّط من إمكانية توسّع الاحتجاجات، ولذلك لجأ إلى التنسيق مع الحزب والسماح بانتشار قواته في مناطق سوريّة عدّة
تحويلات النازحين تستثني العلويّين؟
– أدّى انحسار المعارك مع قوى المعارضة والسيطرة على المناطق التي كانت توجد فيها، إلى تراجع الاستنفار الأمنيّ وتقليص انتشار الحواجز التي كانت تتيح للميليشيات الموالية للنظام (منها قوات الدفاع الوطني الرديفة للجيش) “التشبيح” و”التعفيش” (وضع اليد على ممتلكات المنازل لبيعها)، فتراجع بدوره اقتصاد الحرب الذي استفاد منه زبانية السلطة.
– ارتفاع نسبة العوز والفقر في وسط العلويين، جرّاء تراجع النشاط الاقتصادي بفعل الحصار والعقوبات المستمرّة. وكانوا الأقلّ هجرة من سوريا في المرحلة السابقة، بحيث لا يتلقّون مداخيل من أقارب لهم في الخارج كما تتلقّى فئات أو مناطق أخرى تستفيد من بعض التحويلات المالية من أبنائها النازحين بسبب الحرب. ويرصد المتابعون لعبور النازحين عبر المعابر غير الشرعية في لبنان كثرة نزوح العلويين لأنّهم باتوا أكثر المتضرّرين من بين سائر السوريين الهاربين من الأزمة الاقتصادية خلافاً للسابق.
– تلقّى النظام تنبيهاً من دولة الإمارات العربية المتحدة ومن سلطنة عُمان يحذّره من الاستعانة بمجموعات من “داعش” ضدّ السويداء، كما فعل في تموز من عام 2018، لأنّ هذا الأمر سيستتبع توسيع النشاط الأميركي نحو الجنوب السوري بحجّة محاربة الإرهاب.
خروج درعا عن السيطرة والاعتماد على الحزب
– يحاول النظام التحوّط من إمكانية توسّع الاحتجاجات، ولذلك لجأ إلى التنسيق مع الحزب والسماح بانتشار قواته في مناطق سوريّة عدّة. وتؤكّد مصادر واسعة الاطّلاع في هذا الصدد صحّة الأنباء التي تحدّثت عن أنّ رئيس المخابرات العامّة اللواء حسام لوقا زار بيروت آخر آب الماضي لتنسيق هذا الانتشار، ولاستعراض المعطيات المتّصلة بعودة الضغوط العربية على دمشق إلى التصاعد، والتي من أسبابها الرئيسة وجود الحزب والميليشيات الموالية لإيران على الأراضي السورية، لا سيما إثر تعزيز الحزب قواته في مناطق عدّة، وخصوصاً درعا، بالتزامن مع كثافة الزيارات لمقام السيدة زينب في دمشق.
إقرأ أيضاً: الأسد “السنسكريتيّ” يستنجد بـ”الإله شيفا”.. واليهود
– تتّجه الأمور في محافظة درعا إلى الخروج عن سيطرة النظام والميليشيات الإيرانية مع توجّهات لدعم العشائر من الأردن ودول عربية أخرى لإقامة حزام حماية للحدود الأردنية السورية تسيطر عليه العشائر السنّية، مقابل ضمانها وقف تهريب الكبتاغون والأسلحة إلى الأردن، بعدما أخلف النظام بالتزاماته للدول العربية في هذا الشأن.