من الصعب إيجاد تفسير للكلام الصادر عن محمود عبّاس (أبو مازن) رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية الذي يبرّر فيه الحملة التي تعرّض لها اليهود في أوروبا، بما في ذلك المحرقة التي ارتكبها هتلر في حقّ هؤلاء. يجعل كلام رئيس السلطة الوطنية مشروعاً التساؤل: هل اتّخذ هذا الموقف، الذي سبق أن اتّخذ شبيهاً له في الماضي القريب، للمزايدة من أجل المزايدة بعدما تجاوز الـ87 من العمر؟ ثمّة من يقول إنّ الرجل نادم على دوره الحاسم في التوصّل إلى اتفاق أوسلو، وثمّة آخرون يعتبرون أنّه ربّما يريد التغطية، بشكل مسبق، على تنازلات سيجد نفسه مضطرّاً إلى القيام بها في الأشهر القليلة المقبلة.
في 24 آب الماضي، قال محمود عباس أمام المجلس الثوري لحركة فتح في رام الله: “يقولون إنّ (أدولف) هتلر قتل اليهود لأنّهم يهود، وإنّ أوروبا كرهت اليهود لأنّهم يهود”. أضاف “هذا ليس صحيحاً”، معتبراً أنّ الأوروبيين “قاتلوا (اليهود) بسبب دورهم الاجتماعي، وبسبب الربا والمال، وليس بسبب دينهم”.
لا يصدر مثل هذا الكلام الذي يبرّر فيه “أبو مازن” اضطهاد اليهود في أوروبا، وألمانيا على وجه التحديد، بسبب تعاطيهم في الشأن المالي وما له علاقة بـ”الربا” عن أشخاص طبيعيين. الأهمّ من ذلك كلّه، أنّ الوقت ليس وقت مثل هذا الكلام الذي جاء قبل أيّام من ذكرى توقيع اتفاق أوسلو في حديقة البيت الأبيض في الحادي عشر من أيلول 1993. شهد توقيع الاتفاق، بحضور محمود عبّاس نفسه، المصافحة التاريخيّة بين ياسر عرفات، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، وإسحق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي ما لبث أن دفع حياته ثمن هذا التوقيع.
في النهاية، حصلت سلسلة من الأخطاء أدّت إلى فشل اتفاق أوسلو الذي سمح بعودة ياسر عرفات إلى أرض فلسطين
خطوة غير موفّقة
في كلّ الأحوال، لم تكن خطوة رئيس السلطة الوطنيّة، وهي من النوع المستغرَب، خطوة موفّقة. الخطوة، بكلّ صراحة، هديّة من السماء لبنيامين نتانياهو الذي يقف على رأس الحكومة الأكثر يمينية وتطرّفاً في تاريخ إسرائيل… والذي وقف منذ البداية ضدّ أوسلو. أكثر من ذلك، حرّض “بيبي” علناً على اغتيال إسحق رابين الذي قضى على يد يميني متطرّف يدعى ييغال عمير في الرابع من تشرين الثاني 1995.
ليس لدى “أبو مازن” ما يخجل به بسبب أوسلو. ليس مضطرّاً في نهاية حياته السياسية إلى توفير هديّة لبنيامين نتانياهو واليمين الإسرائيلي وإعطائهما صكّ براءة. الرئيس الحالي للسلطة الوطنيّة الفلسطينية التي وُلدت من رحم أوسلو، ليس مسؤولاً عن فشل الاتفاق الذي لم يكن وارداً أن يرى النور لولا موافقة ياسر عرفات ومباركته له، على الرغم من أنّ كثيرين يعتقدون أنّه لم يقرأه بدقّة ولم يغُص في تفاصيله. رأى “أبو عمّار” في اتفاق أوسلو اعترافاً إسرائيلياً بمنظّمة التحرير الفلسطينية التي ما تزال مرجعية الاتفاق… ورأى أنّ أوسلو بوّابة لدخول واشنطن من الباب الواسع، من باب البيت الأبيض.
أخطاء أفشلت أوسلو
في النهاية، حصلت سلسلة من الأخطاء أدّت إلى فشل اتفاق أوسلو الذي سمح بعودة ياسر عرفات إلى أرض فلسطين. من كان يتصوّر أنّ “أبو عمّار” سيعود يوماً إلى فلسطين وسيُدفن على مرمى حجر من القدس؟
من أهمّ الأخطاء التي ارتُكبت الاستخفاف بالقدرة على التخريب التي يمتلكها تحالف غير مقدّس بين “جبهة الممانعة” التي تقودها إيران وتضمّ متطرّفين من كلّ الأشكال والفئات من جهة، واليمين الإسرائيلي من جهة أخرى.
بعد ثلاثين عاماً على أوسلو، يتبيّن أنّ “أبو مازن” لم يُحسن قيادة مرحلة ما بعد ياسر عرفات الذي كان على خلاف عميق معه
يظلّ الخطأ الأكبر في عدم الذهاب سريعاً إلى تطوير الاتفاق وتنفيذ بنوده فيما إسحق رابين حيّ يُرزق. يعود ذلك إلى أمرين في غاية الأهمّية. أوّلهما أنّ ياسر عرفات لم يكن يعرف كثيراً عن اللعبة السياسيّة في مدينة واشنطن وكيف تُدار الأمور فيها ولا عن إسرائيل نفسها والتجاذبات في داخل تلك الدولة. لم يدرك باكراً مدى تأثير العمليات الانتحارية التي نفّذتها “حماس” في ما يخصّ تغيير طبيعة المجتمع الإسرائيلي بشكل حاسم.
استطاع الحلف القائم بين “الممانعة” التي تضمّ “حماس” وبين اليمين الإسرائيلي نسف أوسلو عن طريق إحداث تغيير داخل إسرائيل نفسها حيث لم يعد مجال إلّا لانتصار اليمين في أيّ انتخابات تجري في المدى المنظور. سمح ذلك بأن يكون بنيامين نتانياهو، الذي لا يحبّذ سوى الإبقاء على الجمود السياسي، أكثر من جلس على كرسي رئيس الوزراء في تاريخ دولة إسرائيل.
ليس مطلوباً الدخول في تفاصيل التفاصيل وأسباب فشل اتفاق أوسلو الذي حمل آمالاً كبيرة لدى توقيعه في حديقة البيت الأبيض برعاية الرئيس بيل كلينتون. الشيء الوحيد الأكيد، بعد مرور 30 عاماً على توقيع الاتفاق، أنّ اليمين الإسرائيلي نجح في محاربته للاتفاق، خصوصاً أنّه كان يمكن أن يمهّد لقيام دولة فلسطينية في يوم من الأيام.
إقرأ أيضاً: أوسلو… بعد ثلاثين سنة
بعد ثلاثين عاماً على أوسلو، يتبيّن أنّ “أبو مازن” لم يُحسن قيادة مرحلة ما بعد ياسر عرفات الذي كان على خلاف عميق معه. في أساس هذا الخلاف طبيعة كلّ من الرجلين. كان “أبو عمّار” يرفض إدارة ظهره لأيّ فلسطيني، فيما لا همّ لدى “أبو مازن” سوى إبعاد أيّ فلسطيني يمتلك حيثيّة ومؤهّلات معيّنة عن الحلقة الضيّقة المحيطة به. صحيح أنّ “أبو عمّار” لم يكن يعرف ما هي أميركا وما هي إسرائيل تماماً، لكنّه كان منفتحاً على كلّ من يستطيع أن يحسّن أداءه. كان يستمع لمن يريد إسداء نصيحة إليه. في المقابل، ثمّة انغلاق كامل لدى “أبو مازن” على كلّ فكرة جديدة. قد يكون هذا الانغلاق وراء عيشه في شبه عزلة عمّا يدور في داخل فلسطين وفي المنطقة والعالم… ووصوله إلى قول كلام يخدم اليمين الإسرائيلي، كلام يصبّ في طاحونة أولئك الذين قالوا في إسرائيل، منذ البداية، إنّه لا فائدة من أيّ اتفاق مع الفلسطينيين ومن الرهان على العيش بسلام معهم.