لا أدري كيف ستكون ردّة الفعل على كتاب “التقدّم نحو الكارثة / أحوال ومشاهدات على أبوب الألفية الثالثة” للشاعر والناقد بلال خبيز، سواء من قبل الفنّانين المعاصرين الذين يتناولهم في بعض مقالاته، أو من قبل الصفحات الثقافية في الصحف، لو كان صدر في موعده عام 2005 أو بعد الانتهاء من كتابته. لكنّ الكتاب صدر متأخّراً حتى 2021 عن دار النهضة.
الذكرى والتأريخ
كان بلال خبيز انتقل إلى منفاه القسري في أميركا، وتبدّلت أحوال وطرائق تقديم الفنّ المعاصر ببيروت. بات محطة للذكرى والكتابة والتأريخ: من كتاب “الهشاشة أساساً” للشاعر فادي العبدالله، إلى كتاب “الطلل الآتي” لوليد صادق.
عدا ذلك اندثرت وتلاشت معظم الصفحات الثقافية اللبنانية، بل تلاشت الصحف الورقية، وانقلب الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي رأساً على عقب في بيروت، وخرج لبنان من الضوء ودخل في أنفاق لا تُحتمل، وقفز العالم موجات جديدة من التقدّم التكنولوجي والمعلوماتي.
النقد الفنّيّ ـ السياسيّ
والحال أنّ كتاب بلال خبيز عبارة عن مقالات فكرية مكثّفة، في النقد الفنّي السياسي، وهو في أصل كتابته وهدفها بحسب خبيز: “كان محاولة لفتح سجال سياسي مع الغرب “المتضامن معنا” يومها من جهة أولى، وسجال مع سلطات سياسية كانت وما زالت حاكمة في البلد منذ ذلك الزمن من جهة ثانية”.
كان بلال خبيز انتقل إلى منفاه القسري في أميركا، وتبدّلت أحوال وطرائق تقديم الفنّ المعاصر ببيروت. بات محطة للذكرى والكتابة والتأريخ
ما كان الكتاب يحاول اختصاره يومها هو القول إنّ الطريق إلى العولمة والديمقراطية لم يكن ميسّراً أبداً، بل على العكس كان محاطاً ومسوّراً بعدد هائل من الأسوار التي تمنعنا من عبورها، والتي تستخدمها سلطات العولمة لرمي الموجودين داخل حضنها من فوقها، أي الأسوار، حين تعجزهم همّتهم وصحّتهم ومواردهم عن الاستمرار في السعي إلى اكتساب مقعد في حافلة العولمة المكلفة.
اعتراض على فلسفة البراءة
يتناول خبيز الفنّ ليس بوصفه أداة للفرجة بل كوسيلة اعتراض. يحاول الاعتراض على “فلسفة البراءة” التي يحفل بها الخطاب العامّ في البلد منذ عقود، والتي تفترض أنّ الحروب على أرضنا إنّما يقوم بها الآخرون. ويؤرّخ بالحديث عنه لمرحلة كانت كلّ تفاصيلها تتّجه نحو الاضمحلال.
حاول المثقّف والشاعر والناقد خبيز أن يجيب عن سؤال: كيف نكوّن الصورة؟ وكيف ندمّر الصورة التي نكوّنها؟ من خلال الرصد الفنّي خصوصاً، لكن أيضاً عبر الحياة كما تُعاش أحوالاً ومشاهدات. أو هو بحسب حازم صاغية في حوار مع المدينة وجغرافيات الأجساد وسائر الحواسّ التي يستنطقها الكاتب فتبدو بذلك “أكثر وأكبر”.
وإذ يرصد القارىء عنوان كتاب خبيز يجد فيه شيئاً من النعي الملتبس. ذلك أنّ “التقدّم”، بحسب عبّاس بيضون في تقديمه الكتاب، غالباً ما يكون إيجابياً، و”يمكن أن نفهم توّاً أنّ العنوان مقصود، إذ سرعان ما نقع على حكم من مثل “لا يكون المستقبل واضحاً، إلا حين يقود إلى الهاوية”، و”الكارثة تقع على غير توقّع، ولا يمكن حساب احتمالاتها”.
“الطائف” في صور
يقول جاك أومون في كتابه “الصورة” إنّ للصورة تأويلاً ذا أبعاد ثلاثة: البعد شبه الكوني، البعد الطبيعي الممكن اعتباره اجتماعياً، والبعد المتّصل بالسياق الاجتماعي حكماً. الكاتب والشاعر بلال خبيز (1963) أراد في كتابه الجديد أن يسائل دلالات الصور، بحسب الناقد والكاتب أنطوان أبو زيد، والأعمال الفنّية المنجزة في لبنان، في خلال السنوات التي تلت اتّفاق الطائف، بل في العقدين الأول والثاني من القرن الواحد والعشرين.
لكنّ الكتاب، على ما يورد خبيز في التوطئة، هو سلسلة مقالات ينظر فيها مؤلّفها في ما قُدّم من فنون عرض وتجهيز وفيديو وصور فوتوغرافية وغيرها ممّا لم يعد جديراً بعناية الصفحات الثقافية، ما دامت لم تجد لها جمهوراً متلقّياً يقدّرها ويقتنيها، على خلاف ما كانت عليه حال الثقافة الفنّية أيّام السبعينيات والثمانينيات. وإثباتاً لمسلّمته التي يستهلّ بها كتابه، وفحواها أنّ ما يمنح الفنون حضوراً هو السلطات، يسوق أمثلة ثلاثة عن أعمال معروضة لكلّ من خليل حرب، وجوانا حاجي توما، وغسان سلهب، ويخلص إلى أنّ الغاية من تتبّعه الأعمال الفنّية على مدار الكتاب (72 صفحة) إنّما هي الفضول.
تشكيل الكتاب
يأتي الكتاب في فصول خمسة موزّعة على 72 صفحة من الحجم الوسط، ويعود تاريخ كتابة نصوصه إلى مطلع الألفية الثالثة حين شهدت العاصمة اللبنانية موجةً فنّيةً ذات وجوه متعدّدة كان مدماكها الأساسي التطوّر العمراني للمدينة.
كتابٌ لزمنه وما بعد
جاء في تقديمه أنّه كُتب في زمنه: “كمساهمة نقدية وفنّية في سجال كان حامياً بين مثقّفي وفنّاني بعض البلاد التي تحاول دخول المعاصرة، كما هي حال مصر وبعض فلسطين ولبنان والأردن، ومثقّفين وفنّانين من دول غربية يرى أهلها أنّ أقدامها راسخة في قاطرة التقدّم، ويسعى بعضهم، وهم المتضامنون مع البلاد “المتخلّفة” عن ركب المعاصرة، إلى مساعدة أهلها على تجاوز هذه المرحلة الانتقالية”.
يتوزّع مضمونه على مقدّمة وخمسة أبواب حملت العناوين التالية: “المطمئن الميت والخائف الناجي”، و”حداثة بيروت الباهظة”، و”تقاطع طرقٍ وحيواتٍ وأنماط”، و”عن صور قليلة ممكنة.. تلك التي تملكنا”، و”صور قليلة الحيلة”. يتناول معارض وأعمالاً فنّية لمروان رشماوي، وليد صادق، طوني شكر، وليد رعد، خليل جريح، وجوانا حاجي توما، وأيمن تراوي، وبعض أفكار أحمد بيضون ووضّاح شرارة، إلى جانب سينمائيين كأكرم زعتري وغسان سلهب.
عن “صناعة الغشّ والضحك والازدراء”
في مقدّمة الكتاب المعنونة بـ”صناعة الغشّ والضحك والازدراء”، يمهّد بلال خبيز لمضمون أبواب مؤلَّفه الخمسة، بالحديث عن نوعٍ جديدٍ من الفنّ يكون فيه الفنّان أوّل ناقدٍ لعمله، بل وشارح نصّه بنصٍّ موازٍ يأتي، غالباً، أشدّ تعقيداً من الأصل. ويشير في السياق ذاته إلى دور السلطة ومفهومها في بنية هذه الفنون التي تتمتّع بخاصيّتين تتعلّق الأولى “باستحالة أن يستقيم هذا النوع من الفنّ على قاعدة الترفيه البحتّ. لا يتّسع هذا الفنّ للموهوبين. الموهبة هنا تحتاج إلى ثقافة متّسعة ومروحة من المعارف تتجاوز كلّ تصنيف وتنميط. والثانية أنّ هذه الفنون في سعيها نحو هذا التوسّع والتجاوز تغامر في أنّها تتجاوز حدودها نحو جمهور افتراضي خارج حدود المكان الذي تصدر منه”.
في الباب الأوّل، يأتي بلال خبيز على ذكر حديث الباحث أحمد بيضون، في كتابه “ما علمتم وذقتم”، عن الاختباء في الحمّام عند اشتداد القصف خلال الحرب الأهلية. ومنه ينطلق في مناقشة موقع الحمّام في تلك الحرب، بوصفه الملاذ الأخير داخل ملاذٍ آخر منتهَك هو البيت.
يتناول في الباب الثاني عدّة مواضيع يتّصل بعضها ببعض، من حيث تفرّعها عن موضوعٍ رئيسيٍّ هو الحرب الأهلية، فيتحدّث تارةً عن تحريف المقاتلين للأغاني الشهيرة خلال تلك الفترة، بما يتناسب مع اللحظة الراهنة، وعن حداثة بيروت تارةً أخرى، بالإضافة إلى لغات أهلها المتعدّدة، ويخلص إلى القول بأنّ في وعي كلّ لبناني جذراً ثابتاً، لا يتزحزح، بانتمائه إلى مكانٍ وفئةٍ ذات تاريخ صراعيّ مع الآخر، وذلك “بحكم العيش والولادة”.
أمّا الباب الثالث فيخصّصه خبيز لتحوّلات بيروت العمرانية بعد انتهاء الحرب ومرحلة إعادة الإعمار، وتحديداً منطقة “سوليدير”، بوصفها “مدينة تجريبية ولم تدخل حيّز العيش بعد”.
إقرأ أيضاً: سهيل إدريس في ذكراه… أين أسئلته؟
ينطلق بلال خبيز من عمل للأستاذ الجامعي والمثقّف طوني شكر المعمار، ليناقش مسألة بنيان مدينة بيروت، التي كانت قد أُنشئت، بحسبه، على الطراز المرسوم لها في المدن: أي للخاصّة من الوافدين إليها.
يبحث في الباب الرابع عن معنى الصورة ومضمونها في السياقات المختلفة التي التُقِطت فيها. صور مستلّة من معرض، أو فيلم سينمائي، أو لقطة، أو زاوية للنظر غريبة، أو مقطع من رواية، من أجل تحليلها واستخلاص العبر منها، وإدراجها في السجلّ الوجداني والمعرفي الخاصّ بالكاتب والمنظّر للتصوير.
لا يبتعد الكاتب اللبناني في الباب الخامس والأخير من كتابه، عن موضوع الباب السابق، حيث يعيد تناول مفهوم الصورة ضمن سياقاتٍ مختلفة، فيكتب عن صورة الغرابة المبتكرة، والصورة المتحايلة، والصورة الباقية، والصورة العائدة من الموت.
لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@