سيكون عسيراً الخروج برواية حقيقية نهائية بشأن الأسباب والتوقيت اللذين يقفان وراء اندلاع الاشتباكات في محافظة دير الزور بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وبعض عشائر منطقة الجزيرة العربية. لقادة “قسد” روايتهم ولقادة العشائر روايتهم المضادّة، لكنّ في الأمر مخاطرة احتراب عربي كردي يأتي من خارج أيّ سياق سوري أو إقليمي أو دولي، لكنّه أيضاً قد يصادف كلّ هذه السياقات مجتمعة.
بدأت القصّة حين دعت قيادة “قسد”، بشخص القائد العامّ لهذه القوات مظلوم عبدي، قيادة المجلس العسكري لدير الزور (المنضوي داخل “قسد”) الذي يُعتبر ممثّلاً للعشائر العربية إلى اجتماع في “استراحة الوزير” بريف الحسكة. بعد ذلك ظهر أنّ تلك الدعوة كانت فخّاً أدّى إلى اعتقال قائد المجلس أحمد البخيل (أبي خولة) وقيادات أخرى. أثار الأمر عشائر المجلس التي تصادمت واشتبكت وهدّدت بعظائم الأمور إذا لم يتمّ الإفراج عن المعتقلين.
تبرّر “قسد” سلوكها بأنّه جاء استجابة لشكاوى عديدة أكثرها من العشائر العربية من انتهاكات وتجاوزات يمارسها أبو خولة وجماعته. وتتحدّث بعض مصادرها عن تواصل الرجل مع دمشق وتؤكّد اشتباه الأميركيين بعلاقاته مع إيران. بدا التبرير ركيكاً وبدت فكرة “فخّ الحسكة” صبيانيّة متعجّلة مرتجَلة.
تفجير الأحقاد
لا يحظى البخيل برضى وإجماع العشائر. لكنّ الحدث فجّر أحقاداً تراكمت بين الفصائل الكردية والعربية التي لفّقت الولايات المتحدة تحالفها تحت مسمّى “قسد”. ولئن لم ينتقل الغضب العشائري إلى مستوى شامل يمثّل كلّ المجتمع العشائري، غير أنّ الأمر مثّل تصدّعاً مقلقاً في علاقات المكوّنات الاجتماعية التي تتشكّل منها المنطقة. كتب عبد الباسط سيدا، القيادي الكردي، الذي رأس في عام 2013 المجلس الوطني السوري، مذكّراً بوحدة النسيج الاجتماعي في منطقة الجزيرة التي وصفها بـ “سوريا الصغرى”.
تتحدّث روايات عن خطط أكراد سوريا لـ “تطهير” “قسد” من مكوّنها العربي وتثبيت سيطرة كردية كاملة على المنطقة إلى حين نضوج التسويات
لاحظ سيدا تزامن تفجّر الصراع بين “قسد” ومجلس دير الزور العسكري مع انتفاضة السويداء. وفنّد ادّعاء “قسد” محاربة الفساد متّهماً إيّاها بأنّها “غارقة فيه”، واتّهم نظام دمشق والمرتبطين بإيران بركوب الموجة بحجّة حماية العرب. وفي ذلك ما يشرّع الأبواب أمام سيناريوهات لا تنتهي بشأن من يقف وراء المواجهات الدموية هناك وسرّ توقيت ذلك وارتباطه بصراع العواصم على سوريا عامّة، وشرق الفرات خاصّة.
يجري الحدث على خلفيّة ضجيج كثيف عن حشود عسكرية أميركية مثيرة للجدل في العراق وصوب سوريا وعلى الحدود بين البلدين. جرى الترويج لخطة أميركية تهدف إلى قطع الطريق على إيران والجماعات التابعة لها وإغلاق تلك الحدود أمامها. حتى الأمين العامّ للحزب في لبنان أثار الموضوع ممعناً في تأكيد الاحتمال رافضاً له ومهدّداً بمواجهته. قيل في شأن هذا الضجيج إنّ الولايات المتحدة تُعِدّ جيشاً من العشائر العربية للمساهمة مع “قسد” في تنفيذ المهمّة المزعومة.
الأميركيون ينفون
أخبرني أحد المصادر السورية أنّه تواصل قبل أيام مع المبعوث الأميركي إلى منطقة شمال شرق سوريا، نيكولاس غرينجر، لسؤاله عن هذه الخطة الأميركية. نفى الرجل، الذي يمارس مهامّه من تركيا، وجود أيّ خطط عسكرية غير معتادة وأكّد أنّ الأمر محصور بتبديلٍ للقوات وغيره من الإجراءات اللوجستية الروتينية. وإذا كان من حقّنا أن لا نصدّق الرواية الأميركية بالنسخة التي يقدّمها غرينجر، فحريّ بنا أن نتنبّه إلى أنّ واشنطن خصّصت لشمال شرق سوريا مبعوثاً خاصاً، وهو ما يعكس أهميّة المنطقة في خطط واشنطن لسوريا والعراق داخل خارطة المنطقة.
تتحدّث روايات أخرى عن خطط أكراد سوريا لـ “تطهير” “قسد” من مكوّنها العربي وتثبيت سيطرة كردية كاملة على المنطقة إلى حين نضوج التسويات. صحيح أنّ هذا التحالف هو “قوّة عسكرية وطنية موحّدة لكلّ السوريين تجمع العرب والكرد والسريان وكلّ المكوّنات الأخرى”، حسب بيان التأسيس في تشرين الأول 2015، لكنّ قيادته وعموده الفقري هما في يد “قوات حماية الشعب” الكردية، الفرع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الموالي لحزب العمّال الكردستاني PKK الذي تضعه تركيا وبلدان كثيرة في العالم على لوائح الإرهاب. وفق هذا الواقع فإنّ حسابات قيادة الـ PKK في جبال قنديل شمال العراق تُملي توجّهات فرعها السوري في قيادة “قسد”.
قيادات قنديلية في “قسد”
نُقل عن مصدر بريطاني أنّ لندن سبق أن كلّفت الدبلوماسي جوناثان باول (شغل منصب أوّل مدير لرئاسة الحكومة في عهد طوني بلير) بالتواصل مع القيادة الكردية في شمال شرق سوريا. عاد باول بعد لقائه بقائد “قسد” مظلوم عبدي بتقرير يؤكّد أنّ الرجل محاط بقيادات “قنديلية” وأنّه واجهة تتحرّك وفق تعليماتها. ولئن تكرِّر تركيا تأكيد ذلك لتبرير حربها ضدّ “الإرهاب الكردي” في جنوب حدودها السورية، فإنّ واشنطن التي تدرك الأمر متمسّكة بالتحالف مع “قسد” وتحمي وجودها في المنطقة وتعتبرها شريكاً جدّياً ومجرّباً في الحرب ضدّ داعش.
إضافة إلى الحوافز “القنديلية” تأتي حوافز دمشق وطهران لمشاغلة المنطقة بتوتّر يخفّف من ضغوط ما تمثّله ظواهر الاعتراض في السويداء واحتضانها داخل بيئات المعارضة في درعا وإدلب ومناطق أخرى، ولمشاغبة التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في تلك المنطقة لإرباك خططه المزعومة بشأن قطع طريق طهران-بيروت. سبق لوزير الخارجية السوري فيصل المقداد أن هدّد في تموز الماضي من طهران بـ “إجبار القوات الأميركية على الانسحاب”، فيما بدا تعظيم الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله في آخر الشهر الماضي لـ”معركة شرق الفرات” هاجساً خطيراً يستحقّ التحرّك.
نشرت رئيسة مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) إلهام أحمد على موقع “X” أنّ التطوّر مدفوع ومسلّح ومُحفَّز من قبل محور دمشق-طهران، وفي الوقت نفسه سُجّل تدخّل ملتبس قيل إنّه لمقاتلات روسية لتخفيف ضغوط العشائر العربية العسكرية على مواقع “قسد” بما يزيد الأسئلة بشأن تعقّد المصالح وتداخلها ويلقي غموضاً فوق غموض على حقيقة ما يجري، خصوصاً أنّ بيان العشائر أو بعضها، السبت، قد وافق منشور القيادة الكردية حين تحدّث عن “دخول مرتزقة وخلايا داعش والميليشيات الإيرانية للمنطقة بتسهيل من أجهزة النظام للتحريض والفتنة بصيغة عشائرية”.
إقرأ أيضاً: السويداء.. حراك “المعارضة المصنّعة محلّيّاً”
اللافت أنّ التحالف الدولي الذي يدعو إلى عودة الهدوء لم يُظهر انحيازاً لأحد طرفَي الصراع، وهو ما ساق ماء إلى طاحونة أنباء تحدّثت عن خطة أميركية لتشكيل جيش من العشائر العربية ليست تركيا بعيدة عنها. وإذا ما يبدو المشهد مخصّباً بكثير من التشتّت والعبث، فذلك لأنّ الأمر يعكس حقيقة الأمور في سوريا. ففي ظلّ غياب سياق لحلّ جذري شامل للمسألة السورية، تذهب الأمور باتجاه إدارة طويلة الأمد لمناطق النفوذ في سوريا، وهو ما يمهّد لإنتاج مفدْرَل لسوريا المستقبل، ويتطلّب في جبل العرب أو الجزيرة أو حوران أو إدلب أو غيرها إعادة تموضع قوى الصراع لتثبيت خرائط الأمر الواقع.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@