هل هناك علاقة بين التراجع الحادّ في منسوب مياه نهرَي دجلة والفرات (من تركيا إلى سوريا والعراق) وجفاف البحيرات التي تتغذّى من مياه هذين النهرين، وبين الهزّات الأرضية التي ضربت جنوب تركيا وشمال سوريا؟
العلماء التابعون للأمم المتحدة يجيبون على هذا السؤال بالإيجاب، ويقولون إنّ تخزين المياه داخل تركيا أدّى إلى ارتفاع قوّة الضغط الداخلي التي تتعرّض لها التشقّقات الداخلية في التربة. وقد سجّل العلماء منذ عام 1960 ما يزيد على 140 هزّة أرضية في مناطق مختلفة من العالم لزيادة الضغط المائي على هذه التشقّقات الأرضية منذ ستّينيات القرن الماضي. وفي إحدى هذه الحالات أدّى ذلك إلى مقتل الآلاف من الناس.
أقامت تركيا على مجرى نهرَي دجلة والفرات 860 سدّاً. وإلى جانب الفوائد المهمّة من جرّاء إنتاج الطاقة وريّ الأراضي الزراعية في تركيا، أدّت هذه السدود إلى أمرين خطيرين لم يكونا في الحسبان:
– حبست المياه عن سوريا والعراق، فجفّت الأنهار والبحيرات في الدولتين، وتراجعت المساحات الزراعية فيهما ونقصت المياه نقصاً حادّاً.
– زيادة هذه السدود الضغط المائي على التشقّقات الداخلية في التربة التركية، مؤدّيةً إلى وقوع سلسلة اهتزازات أرضيّة.
في القانون الدولي من حقّ تركيا أن تحبس مياه نهرَي دجلة والفرات استجابة لحاجاتها الاقتصادية (الزراعية والصناعية). لكنّ الوقائع أثبتت أنّ المبالغة في استخدام هذا الحقّ ليست من مصلحتها. ذلك أنّ حبس المياه يؤدّي إلى زيادة الضغط على التربة التي تؤدي بدورها إلى تحرّك داخلي في الأعماق. وهذا التحرّك يوسّع التشقّقات القائمة وينتهي إلى اهتزازات يدفع ثمنها الناس الأبرياء.
لم تستطع الصداقة العربية – التركية معالجة قضية تدفّق مياه نهرَي دجلة والفرات نحو سوريا والعراق. فرض ذلك الخوف من خطر الهزّات الأرضية التي سبّبها حبس المياه داخل تركيا
تركيا تقرّر “عودة المياه إلى مجاريها”
من هنا اكتشفت تركيا أنّ من مصلحتها إعادة إطلاق مياه نهرَي دجلة والفرات نحو سوريا والعراق، ليس فقط احتراماً لحصّة الدولتين من مياه النهرين بموجب المعاهدات الدولية التي تنظّم العلاقات بين دول المنبع والمجرى والمصبّ، إنّما حفاظاً على سلامة جنوب تركيا من الاهتزازات الأرضية المترتّبة على الضغوط التي سببها حبس هذه المياه. ويبدو أنّ تركيا أدركت هذا الأمر، خاصة بعد سلسلة الهزّات التي ضربتها في شهر شباط الماضي وأدّت إلى مقتل الآلاف وتدمير مدن وقرى عديدة، وبعد الأمطار الغزيرة التي غمرت جنوب وجنوب شرق تركيا وأدّت إلى رفع مستوى الأنهار (وكذلك مستوى مياه السدود).
نتيجة لذلك رفعت تركيا السدود وأطلقت مجاري الأنهار جنوباً إلى سوريا والعراق، وذلك للمرّة الأولى بعد انحباس طويل. وهكذا عادت الحياة من جديد إلى نهر الخابور في منطقة الحسكة في شمال شرق سوريا بعد جفاف طويل. كذلك الجزر التي ارتفعت في مجرى نهر الفرات جرّاء قلّة المياه المتدفّقة في النهر، اختفت من جديد بعدما غمرتها مياه النهر. وحتى بغداد بدأت تتنفّس الصعداء جرّاء ارتفاع منسوب النهر الذي يخترقها من الشمال إلى الجنوب.
صحيح أنّ موجة الحرّ المرتفع التي غمرت المنطقة (والعالم كلّه) لم تسمح باكتمال عناصر الابتهاج بالتغيير الذي حدث، إلا أنّ تركيا حرصاً على مصالحها في الدرجة الأولى، أطلقت سراح المياه المحبوسة. وفي ذلك استجابة لمصالح الدولتين الجارتين في الجنوب، سوريا والعراق.
إقرأ أيضاً: “الإيكونوميست”: حرب المياه في الشرق الأوسط
لم تستطع الصداقة العربية – التركية معالجة قضية تدفّق مياه نهرَي دجلة والفرات نحو سوريا والعراق. فرض ذلك الخوف من خطر الهزّات الأرضية التي سبّبها حبس المياه داخل تركيا. وهكذا انتعشت من جديد المعادلة التاريخية التي تحكّمت في صياغة العلاقات العربية التركية على مدى عقود طويلة متجاوزة الحسابات السياسية وتبدّلاتها.