ظهرت في الحضارة اليونانية القديمة نظريّة “الفنّ للفنّ”، وهي شكل من أشكال الفلسفة اللاتينية التي تقوم على رفض كلّ قديم. بعد مئات السنوات خرجت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية بنظرية جديدة تقوم على استخدام “الفنّ للتهرّب من العقوبات” بناء على تحقيق استقصائي أجرته.
بعدما اتّهمت السلطات الأميركية جامع التحف اللبناني ناظم سعيد أحمد في شهر نيسان الماضي بـ”غسل الأموال والتهرّب من العقوبات الأميركية” المفروضة عليه منذ عام 2019 باعتباره أحد كبار مموّلي الحزب، الذي تصنّفه “منظمة إرهابية”، وذلك من خلال استخدام شبكة من الشركات لإخفاء ملايين الدولارات في معاملات تتعلَّق بالفنون والمجوهرات، قالت صحيفة “نيويورك تايمز” إنّ ممثّلي الادّعاء الأميركيين يملكون أدلّة على استخدام أحمد مبيعات لوحات وأعمال فنّية في مخطّطه وإنّ أكثر من عشر صالات عرض وفنّانين ساهموا في مخطّطه للتهرّب من العقوبات وغسل الأموال، وبالتالي تمويل الحزب، لكن من دون أن يتمّ اتّهامهم بارتكاب مخالفات أو مساعدة أحمد عن قصد.
كشفت الصحيفة في تحقيق استقصائي لها، نقلاً عن لائحة الاتّهام الأميركية، أنّ فنّانين ومعارض فنّية ظلّت تتعامل مع ناظم أحمد على الرغم من العقوبات وتصنيفه مورداً مالياً للحزب، وحظر التعامل معه أو مع الكيانات التي يسيطر عليها. في عام 2020 وافق فنّان من نيويورك على بيع أعمال فنّية له. وفي عام 2021، باع معرض ستّة من أعمال ذلك الفنان إلى “كيان مقرّه في سيراليون” وصفه المحقّقون بأنّه واجهة لأحمد. وفي آذار 2022 بعد أكثر من عامين من فرض العقوبات باع معرض في شيكاغو 21 عملاً فنّياً لشركة كان أحمد يستخدمها لشراء الأعمال الفنّية. وبيّنت الوثائق القانونية أنّ الشحنة الموجّهة إلى شركة في لبنان تحتوي على “أسرّة أطفال خشبية” لا أعمال فنّية.
بحسب الصحيفة فإنّ المسؤولين الأميركيين مهتمّون بشكل خاص بالأموال التي جمعها أحمد من تهريب “الماس الدموي”، وهي الأحجار الكريمة المستخدمة في تمويل الصراعات المسلّحة
بحسب اللائحة، كان ناظم أحمد يستخدم أعماله الفنّية لتحويل وإيواء عائدات تجارة الماس، التي كانت مصدر تمويل للحزب. ومنذ عام 2012، حصل على أكثر من 54 مليون دولار من الأعمال الفنّية من دور المزادات الكبرى والمعارض، أو مباشرة من استوديوهات الفنّانين، وغالباً ما يُخفي ملكيّته من خلال إعداد فواتير رسمية باستخدام شركات التغطية أو أفراد الأسرة أو شركاء الأعمال كمالكين. ولقد اشتكى المنظّمون الأميركيون منذ فترة طويلة من أنّ المعاملات الفنّية تتمّ في سرّية تامّة، حيث نادراً ما يتمّ التعرّف على الأطراف الحقيقية علانية، لدرجة أنّ السوق أصبحت مهيّأة لغسل الأموال والتهرّب الضريبي.
تجّار يشكّكون
نقلت الصحيفة عن بعض تجّار الأعمال الفنّية ودور المزادات أنّ التهديدات مبالغ فيها والانتهاكات قليلة، وأنّ من غير المعقول إجراء فحوصات واسعة النطاق لخلفيّة العملاء، خاصة إذا كانوا قد اتّخذوا إجراءات لإخفاء هويّتهم. ونقلت عن إريك علوش، الذي كان معرضه إحدى الشركات المذكورة في لائحة الاتّهام بأنّها تعاملت مع أحمد، قوله إنّه “ليس لديه أيّ دليل على أنّه يتعامل مع كيان تدّعي الحكومة أنّه تابع لأحمد”. أضاف علوش: “كان لدينا عنوان، وتمّ الدفع لنا وكنّا نشحن. من الصعب على صالات العرض البحث عن شركات وهمية والتحقّق من قواعد البيانات الحكومية لكلّ عملية بيع ما لم يتمّ إعطاؤنا أدوات سهلة للقيام بذلك”.
حتى الآن، امتنعت الحكومة الأميركية عن تبنّي لوائح تنظيمية كتلك التي تمّ تبنّيها أخيراً في أوروبا والتي لا تُلزم تجّار الأعمال الفنّية التحقّق من هويّة عملائهم وحسب، بل ومن أصل ثروتهم. قال نيكولاس أودونيل، المحامي المتخصّص في سوق الفنّ في بوسطن: “عندما يتعلّق الأمر بالتعامل مع الأفراد الخاضعين للعقوبات، فإنّ الجهل ليس عذراً. ليس من الصعب الرجوع إلى قاعدة البيانات المتاحة للجمهور على الإنترنت التي تبيّن الأفراد الخاضعين للعقوبات والتي يديرها مكتب مراقبة الأصول الأجنبية في الولايات المتحدة. ففي قضيّة أحمد، نشرت قاعدة البيانات اسمه وأسماء الشركات التي كان معروفاً أنّه يتاجر بموجبها”.
أحمد وأقاربه
أشارت لائحة الاتّهام إلى أقارب أحمد ورفاقه الذين قالت إنّهم ساعدوه في شراء الأعمال الفنّية في انتهاك للعقوبات وتعاملوا مباشرة مع الفنّانين أو المعارض. وكان من بينهم ابنة أحمد، هند، التي تدير معرض Four You Gallery في لبنان. وقالت في مقابلة في نيسان الماضي إنّ والدها لم يكن مموّلاً للحزب وإنّ صالات العرض الخاصّة بها لم تُستخدم أبداً لغسل الأموال.
نقلت الصحيفة عن بعض تجّار الأعمال الفنّية ودور المزادات أنّ التهديدات مبالغ فيها والانتهاكات قليلة، وأنّ من غير المعقول إجراء فحوصات واسعة النطاق لخلفيّة العملاء، خاصة إذا كانوا قد اتّخذوا إجراءات لإخفاء هويّتهم
قالت السلطات إنّ أحمد، الذي وُلد في عائلة ثريّة من تجّار الماس، ما يزال طليقاً خارج الولايات المتحدة. ونشرت وزارة الخارجية مقطع فيديو يعرض مكافأة 10 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عنه وعن شبكته الماليّة، ويُظهر رجلاً يُعرّف أنّه أحمد وهو يطلق صاروخاً محمولاً على الكتف، وتقدّمه الحكومة كدليل على صلاته بالحزب. وفي بيروت، عُرف أحمد، 58 عاماً، بأنّه محبّ للفنّ المعاصر، ومنزله مليء باللوحات والمنحوتات. ويقدّر مسؤولون أميركيون مجموعته بعشرات الملايين من الدولارات وتضمّ أعمالاً لبيكاسو ووارهول. وفي مقابلة عام 2021، قال أحمد إنّ شغفه بالفنّ حقيقي، وليس واجهة لغسل الأموال، ووصف التهم الموجّهة إليه بأنّها ذات دوافع سياسية.
بحسب الصحيفة فإنّ المسؤولين الأميركيين مهتمّون بشكل خاص بالأموال التي جمعها أحمد من تهريب “الماس الدموي”، وهي الأحجار الكريمة المستخدمة في تمويل الصراعات المسلّحة. وقالوا إنّه تبرّع شخصياً بأموال لزعيم الحزب حسن نصر الله وقام بغسل أموال الحزب من خلال شركاته. وقد هدفت العقوبات المعلنة ضدّه في كانون الأوّل 2019 إلى عزله عن النظام المالي الأميركي ووقف تعاملاته مع أيّ كيانات أميركية. وقد يخضع الذين تعاملوا معه أيضاً لعقوبات. وتشير وثائق المحكمة إلى أنّ أحمد أو شركاته واصلوا على الرغم من الحظر شحن مئات حبّات الماس إلى الولايات المتحدة لتصنيفها أو تقويم جودتها. وتبلغ قيمة الحجر الواحد 80 مليون دولار، بحسب لائحة الاتّهام. وأفاد المدّعون الفدراليون في نيويورك باكتشاف واردات وصادرات بقيمة 400 مليون دولار تقريباً، معظمها من الأعمال الفنّية والماس، من وإلى الولايات المتحدة، من قبل كيانات مرتبطة بأحمد بعد فرض العقوبات. من هذا المبلغ جاء أكثر من مليون دولار من الفنّ المعاصر في الولايات المتحدة أو من المواطنين الأميركيين في الخارج، على الرغم من أنّ هذه الأعمال غالباً ما تمّ التقليل من قيمتها لتجنّب الرسوم الجمركية، وفقاً للائحة الاتّهام.
إقرأ أيضاً: مطار رفيق الحريري مهدّد بالعلم الأحمر؟
تشير لائحة الاتّهام، وفقاً لتحقيق الصحيفة، إلى عدّة حالات بذلت فيها المعارض الفنّية ومجموعة الفنّانين جهوداً لتلبية مطالب أحمد ورفاقه. وفقاً لوثائق المحكمة، سمح معرض شيكاغو “لكيانات يسيطر عليها أو تعمل لـ” أحمد بدفع جزء من فاتورة بقيمة 241 ألف دولار بشكل غير مباشر، عبر طرف ثالث، بزيادات أقلّ من 10 آلاف دولار، وقد أدّى ذلك إلى تجنّب متطلّبات الإبلاغ المالي في الولايات المتحدة وحجب دور أحمد في البيع. واستجاب بعض الفنّانين والمعارض الفنّية لطلبات التقليل من قيمة إيصالات المبيعات ومستندات التصدير حتى يتمكّن أحمد من تجنّب الضرائب الأجنبية.
قال وايت ميلز، وهو فنّان مقيم في كاليفورنيا، إنّه لم يكن لديه أيّ فكرة عن أنّ أحمد كان خاضعاً للعقوبات أو متّهماً بالانتماء إلى الحزب عندما باع له أربعة أعمال في عام 2021. فـ”مهمّتي ليست التحقّق من الخلفية الجنائية لأيّ شخص يشتري لوحة. لا يعلّمونك مثل هذه الأشياء في مدرسة الفنون.”