لا يعبّر الموقف الفرنسي خلال مباحثات مجلس الأمن للتمديد لقوات اليونيفيل إلا عن حجم السطحيّة والانتهازيّة اللتين تتميّز بهما السياسة الخارجية الفرنسية في عهد إيمانويل ماكرون، مقرونة بمقدار عجيب من عدم الوضوح الأخلاقي والاستراتيجي.
يظهر ذلك بوضوح في صياغة باريس الأولى لمشروع قرار مجلس الأمن بشأن لبنان التي كانت تنطوي على إضعاف متعمَّد للصياغة السابقة المتعلّقة بحرّية حركة قوات الأمم المتحدة، من خلال الإشارة إلى وجوب التنسيق المسبق بين قوات اليونيفيل والحكومة اللبنانية، وحذف النصّ الوارد في قرار مجلس الأمن للعام الماضي الذي يطالب جميع الأطراف بالسماح “بدوريات معلنة وغير معلنة” لليونيفيل. فعلت فرنسا ذلك استجابةً لمطالب معلنة للحزب بهذا الخصوص، ومسايرةً لإيران، التي تحتاج إليها فرنسا في العراق ولبنان لضمان الاستمرار بعقود شركة “توتال” للتنقيب عن الغاز والنفط في البلدين. ويصف أحد الدبلوماسيين الغربيين سلوك فرنسا بالقول إنّها حين يتعلّق الأمر بلبنان فهي “في جيب حفيد نصرالله لا في جيب نصرالله وحسب”!.
لا يعبّر الموقف الفرنسي خلال مباحثات مجلس الأمن للتمديد لقوات اليونيفيل إلا عن حجم السطحيّة والانتهازيّة اللتين تتميّز بهما السياسة الخارجية الفرنسية في عهد إيمانويل ماكرون، مقرونة بمقدار عجيب من عدم الوضوح الأخلاقي والاستراتيجي
دور اللوبي الإماراتي
دولة الإمارات العربية المتحدة الممثلة للدول العربية في مجلس الأمن بذلت كل الجهد لإسقاط هذه التعديلات،وأجرت اتصالات دبلوماسية حثيثة لتعزيز لغة البيان أكثر لناحية حرّية الحركة والتشديد على “مسؤولية السلطات اللبنانية” حيال القرار 1701، وليس فقط على حقوقها السيادية في التعامل مع ملفّ قوات اليونيفيل.
الانتقاد الإماراتي المبطّن لفرنسا كان شديد الوضوح حين قالت مندوبة الإمارات في مجلس الأمن، لانا نسيبة، في بيانها الذي علّل تصويت بلادها على قرار تمديد عمل قوات اليونيفيل: “ما من تسوية قادرة على تغيير حقيقة أنّ الشراكة مع الحزب بغية إحراز تقدّمٍ في لبنان لم ينجم عنها سوى خيبة الأمل والأسى، لا سيما للشعب اللبناني”، في إشارة إلى حجم المسايرة المتزايدة من قبل باريس لميليشيا الحزب.
تطبيع هوكستين مع الحزب
تزامن الموقف الفرنسي الممالئ للحزب، ومن خلفه إيران، مع الاستعراض السياحي السطحي للمبعوث الأميركي آموس هوكستين في لبنان، لا سيما زيارته للمناطق التي تسيطر عليها ميليشيا الحزب، كزيارة بعلبك بالطوّافة، ومعاينة آثارها عن كثب، ونشر صور الزيارة. مغامرات هوكستين السياحية في بعلبك، وصوَر الإفطار البيروتي قبالة صخرة الروشة، كما يليق بنوستالجيا المهاجرين العائدين، بدت سطحية ومهينة لمعاناة اللبنانيين بالنظر إلى حجم الأزمة الاقتصادية المُرهِقة التي يعاني منها البلد. ولكنّها ليست كذلك وحسب. فمن حيث أراد الزائر الأميركي أو لم يرِد حملت سياحته الدبلوماسية، أو دبلوماسيّته السياحية، شيئاً من التطبيع مع قبضة ميليشيا الحزب على البلاد، التي للمفارقة ما بدت مستفزّة من جولات هوكستين واستعراضاته.
ربّما ظنّ هوكستين أنّ مثل هذا الشكل الدبلوماسي يُظهر ضعف الحزب، أو عدم جرأته على إيذاء من يتطاول عليهم ويعِد بإسقاطهم ليل نهار. بيد أنّه بذلك يُسيء فهم الواقع الجيوسياسي ويقلّل من مستوى النضج الاستراتيجي لميليشيا الحزب. لنتذكّر أنّنا نتحدّث عن الميليشيا نفسها التي أقامت الدنيا ولم تقعدها في السابق حيال زيارات لمسؤولين أميركيين للبنان. وربّما أبرز زيارتين منها زيارة وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت، التي وصفها نصرالله بـ”الشمطاء” يومها، وزيارة وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس للسراي الحكومي خلال حرب تموز 2006. صحيح أنّ السياقات والظروف مختلفة، لكنّ صمت الحزب شديد التعبير عن أولويّاته وفهمه للمرحلة.
افتقار الدبلوماسيّتين الفرنسية والأميركية لمقدار صحّي من الوضوح الأخلاقي، هو مساهمة مباشرة في إضعاف مستقبل لبنان وتغطية مشينة على واقع أنّ لبنان دولة أسيرة عند ميليشيا الحزب
ذكاء نصر الله…
قبل أسابيع استشهد نصرالله بذكاء بدراسة قال إنّه اطّلع عليها ولم تُنشر، وفيها أنّ سلاح ميليشيا الحزب ليس بين أولويات اللبنانيين الخمس الأكثر إلحاحاً، منتقداً من يحاولون جعل السلاح أساساً للصراع السياسي في لبنان.
هذا ما تصبّ عنده، من وجهة نظر نصرالله، مغامرات هوكستين السياحية، كأنّها تقول إنّ حال الطوارىء بشأن سلاح ميليشيا الحزب مفتعَلة أو إنّ الوضع “ليس بهذا السوء” وإنّه يمكن التعايش مع الحزب كقوّة مسلّحة داخل الدولة، والأهمّ كلاعب سياسي يمتلك القدرة والبراغماتية لصياغة تفاهمات ذات مضمون استراتيجي طويل الأمد.
يعكّر هذا النوع من الدبلوماسية السطحية صفو الجهود الرامية إلى معالجة القضايا الجوهرية في لبنان، وعلى رأسها السلاح، ويخدع اللبنانيين من خلال تعزيز سردية الحزب التي تقول إنّ السلاح ليس من بين التحدّيات الحقيقية التي يواجهها الشعب اللبناني.
افتقار الدبلوماسيّتين الفرنسية والأميركية لمقدار صحّي من الوضوح الأخلاقي، هو مساهمة مباشرة في إضعاف مستقبل لبنان وتغطية مشينة على واقع أنّ لبنان دولة أسيرة عند ميليشيا الحزب.
إقرأ أيضاً: التجديد لـ”اليونيفيل”: تمرين على مفاوضات الحزب البرّيّة
الانتهازية الفرنسية، والسطحية الدبلوماسية الأميركية، تجعلان من الشعب اللبناني بيدقاً منسيّاً على رقعة المصالح الدولية والشخصية وحسب، وتضع معاناته المزمنة كملاحظة في هوامش مخطّطات الدول.
في معارك السعي إلى الاستقرار والسلام، يتبدّى الوضوح الأخلاقي كواجب لا كخيار، وهو ما يظهر أنّه الغائب الأوّل عن الدبلوماسيّتين الأميركية والفرنسية .
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@