تركيا تخطب “ودّ” إسرائيل لإعادة رسم خرائط الغاز

مدة القراءة 7 د


تنشط تركيا لإحياء مشروع خطّ لأنابيب الغاز مع إسرائيل، لكنّ نجاحها رهن بإعادة رسم خرائط الأنابيب والنفوذ والعلاقات الاستراتيجية في رقعة أوسع تشمل مصر وقطاع غزّة وقبرص واليونان، وستكون له انعكاسات مباشرة على ملفّ الغاز في لبنان.
في اليومين الماضيين، أُعلن اتّصال هاتفي بين وزير الطاقة التركيّ ألب أرسلان بيرقدار ونظيره الإسرائيلي إسرائيل كاتز، أعقبه إعلان زيارة للوزير التركي لإسرائيل “في أقرب وقت ممكن” بدعوة من نظيره الإسرائيلي.
ما ذُكر عن أهداف الزيارة في وسائل الإعلام، ومنها وكالة بلومبرغ، أنّ في جدول أعمالها البحث في تطوير حقل غاز قبالة ساحل غزّة، وتصدير إنتاجه إلى أوروبا عبر تركيا. ولهذا المقترح، إن سلك مسلكاً جدّياً، معنى استراتيجي كبير، في بقعة تقع على مرمى حجر من مصر الساعية إلى تثبيت نفسها عاصمة لتجارة الغاز في شرق المتوسط، وتعدّ حديقة خلفيّة لأمنها القومي.
جابت سفن الحفر التركية في البحر المتوسط طويلاً بحثاً عن الغاز في السنوات الماضية، حين كان الاستفزاز في ذروته مع قبرص واليونان. وانتهى الأمر بإعلان اكتشاف في مكان آخر، في البحر الأسود، لأكبر حقل غاز في تاريخ تركيا، باحتياطي يقدَّر بنحو 400 مليار متر مكعّب. أتاح ذلك لأنقرة إبعاد ملفّ الاستكشاف في البحر المتوسط عن التداول الإعلامي من دون انتكاسة معنوية. لكنّ الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يبدو مصمّماً الآن على العودة إلى ملفّ الغاز في شرق المتوسط من باب صفقة مع إسرائيل، بمباركة أميركية، يصيب بها عدداً من العصافير بطلقة واحدة.
تقضي الصفقة بإنشاء خط أنابيب بحريّ من حقل ليفيثان، أكبر حقول الغاز في إسرائيل، إلى تركيا، لتصبح هذه الأخيرة محطّة الوصل لتصديره إلى أوروبا، من دون الحاجة إلى تحويله إلى غاز مسال.

من جانب إسرائيل، يعدّ خطّ الأنابيب إلى تركيا واحداً من خيارات استراتيجية عدّة لتصدير الغاز لا بدّ من تفضيل أحدها، وربّما يصعب الجمع بينها

صفقةٌ كهذه لا تعني تركيا وإسرائيل فحسب، بل هي في صلب خريطة الطاقة التي ينشط المبعوث الأميركي الخاص آموس هوكستين على خطّ ترسيمها، وفي صلب الاهتمام الأوروبي بالحصول على موارد بديلة عن الغاز الروسي.

حجم الإنتاج الإسرائيليّ
باتت إسرائيل تتمتّع بموقع لا بأس به على خريطة إنتاج الغاز الإقليمية. إذ أنتجت العام الماضي نحو 21 مليار متر مكعّب، صدّرت منها قرابة 9.2 مليارات متر مكعب. وعلى الرغم من ضآلة رقم الصادرات قياساً بحجم الاستهلاك الأوروبي البالغ نحو 430 مليار متر مكعّب العام الماضي، إلا أنّ ذلك لا يقلّل من الاهتمام بالغاز الإسرائيلي، خصوصاً في ظلّ مشاريع التوسعة المستمرّة للإنتاج، ومنها توسعة حقل تمار، الذي سيرتفع إنتاجه بنسبة 60%، أو بنحو ستّة مليارات قدم مكعّبة، اعتباراً من عام 2026.
من جانب إسرائيل، يعدّ خطّ الأنابيب إلى تركيا واحداً من خيارات استراتيجية عدّة لتصدير الغاز لا بدّ من تفضيل أحدها، وربّما يصعب الجمع بينها. ويمكن ذكر خيارين آخرين يُعتبران من الأكثر معقولية:
1- الخيار الأوّل هو النموذج القائم حالياً، وهو تصدير الغاز بالأنابيب إلى مصر، إمّا لاستهلاكه محلّياً هناك، وإمّا لتحويله إلى غاز مسال في محطّتي التسييل إدكو ودمياط، ثمّ إعادة تصديره. ميزة هذا الخيار أنّه لا يحتاج إلى أيّ إنفاق استثماري جديد، إذ إنّ منشآت التسييل قائمة في مصر، والأنابيب قائمة. وأضف إلى ذلك الموثوقية التي تتمتّع بها القاهرة، كشريك طويل الأمد، لا تخضع علاقاتها للتقلّبات الآنيّة والمزاجية.
2- الخيار الثاني إنشاء محطة لتسييل الغاز في إسرائيل، لتصديره مباشرة من دون المرور في مصر. وهذا الخيار يعطي تل أبيب استقلالية في إدارة أسواق التصدير، ويتيح لها الانفتاح على أسواق الصين وشرق آسيا، لكنّه خيار مكلف استثمارياً، ولا بدّ من التأكّد من أنّ كمّيات الإنتاج على مدى العقود المقبلة كافية لتحقيق جدوى اقتصادية معقولة لهذا الاستثمار، خصوصاً في ظلّ توافر بدائل أخرى أكثر ربحية.
الاختيار هنا ليس اقتصادياً بحتاً، بل يعني الكثير في الميزان الجيوسياسي. فبين تركيا ومصر تنافس لتبوّؤ الموقع المركزي الأهمّ في شبكة تصدير الغاز من حقول شرق المتوسط، وقد حقّقت نقاطاً متقدّمة على هذا الصعيد في السنوات الماضية.
في الوقت الراهن، يذهب ثلثا صادرات الغاز الإسرائيلي تقريباً إلى مصر، فيما يذهب أكثر من الثلث بقليل إلى الأردن. وقد أعلنت إسرائيل أخيراً موافقتها على زيادة صادراتها إلى مصر بمعدّل 3.5 مليارات متر مكعب إضافية على مدى 11 عاماً، لتصريف الإنتاج الإضافي المتوقّع من حقل تمار.
بدأ البحث في الخيار التركي عام 2016، لكنّ عراقيل كثيرة أوقفته، ظاهرها تجاري يرتبط بعدم الاتفاق على سعر شراء الغاز، وفي عمقها قضايا سياسية أعمق، إذ إنّ تلك الفترة كانت تشهد اضطراباً في العلاقة بين أنقرة وتل أبيب، وبين أنقرة وواشنطن، فضلاً عن التوتّر بين تركيا وقبرص، التي يفترض أن يمرّ الأنبوب في منطقتها الاقتصادية الخالصة.

أعادت تركيا إحياء الحديث في المشروع العام الماضي، مستندةً إلى جملة من المستجدّات، أوّلها التخلّي الأميركي الصريح عن دعم مشروع خطّ أنابيب “إيست ميد” البحري بين إسرائيل وقبرص واليونان، نظراً لتكلفته المرتفعة وعدم ضمان جدواه التجارية وصعوباته التقنية وآثاره البيئية، بينما لا تتجاوز المسافة من حقل ليفيثان إلى تركيا 500 كيلومتر، ولا تتجاوز تكلفة خطّ الأنابيب المقترح مليار دولار، أي ما يعادل ربع تكلفة خطّ “إيست ميد” إلى قبرص واليونان.
وثاني المستجدّات المهمّة التغيّر الذي طرأ على عقيدة أمن الطاقة في أوروبا بعد الحرب الأوكرانية، إذ بات تنويع مصادر توريد الغاز عبر الأنابيب من ثوابت سياسات الطاقة لتقليل الاعتماد على روسيا. أضف إلى ذلك مساعي التقارب الغربي مع أنقرة الذي ظهرت ثماره في ملفّات عدّة، منها توسيع الناتو والموقف من الحرب الأوكرانية.
تبني تركيا على ميزة تنافسية لديها تتمثّل في كونها أصلاً مركزاً أساسياً لخطوط الأنابيب بين مراكز إنتاج الغاز في روسيا وأذربيجان من جهة، ودول جنوب أوروبا ووسطها من جهة أخرى. ويعدّ “خط أنابيب عبر الأناضول” (TANAP)، الذي يعبر تركيا من شرقها إلى غربها، شرياناً أساسياً للطاقة في القارّة العجوز. يضاف إلى ذلك أنّ الدول الأوروبية تفضّل استيراد الغاز عبر الأنابيب أكثر من الغاز المسال إجمالاً، لخفض التكلفة.
لكنّ الصعوبة أمام مشروع خطّ الأنابيب التركي-الإسرائيلي كثيرة، ومنها تقلّب العلاقات التركية الإسرائيلية، ومغامرة أنقرة بإغضاب روسيا، وهي شريكها الأكبر في تجارة الغاز. والأهمّ من كلّ ذلك، أنّه في حسابات المفاضلة، تبقى مصر الشريك الأكثر موثوقية وثباتاً واستقراراً، فضلاً عن أنّ لديها سوقاً محلّية آخذة في التوسّع بفضل النموّ السكّاني والاقتصادي. ويشير الواقع إلى أنّ القاهرة كانت أسبق وأكثر فعّالية في صياغة المنظومة الإقليمية لمنتدى غاز شرق المتوسط، وتوقيع الاتفاقيات التي تضمن لها الأولوية في صادرات الغاز من إسرائيل، وهو ما سيضعف الجدوى التجارية لأيّ مشروع جديد لخطوط الأنابيب.

إقرأ أيضاً: لماذا اخترق “وزير المالية” خطّ إردوغان الأحمر!

اللافت هو إدراج قطاع غزّة الخاضع لحكم “حماس” ضمن الصفقة المقترحة من تركيا، وهذا سيعطي التفاوض من أجل إتمامها سياقاً إقليمياً أوسع قد يصحّ ربطه بسياقٍ موازٍ بدأ بانخراط الحزب في اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، والتنقيب في البلوك رقم 9، وصولاً إلى زيارة هوكستين الأخيرة للبنان.
أيّاً يكن، سيكون للتنافس الإقليمي على رسم خطوط الغاز انعكاس مباشر على ملفّ التنقيب والاستخراج في لبنان. فالغاز، وخلافاً للنفط، لا يمكن تصديره إلا بالتعاون مع الجيران، وأصعب ما في الأمر حين يكون الجيران أعداء. وهذا يكفي لفتح باب التكهّنات بما يُنسج من صفقات كلّما تحرّكت منصّات الحفر.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: OAlladan@

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…