من فضائل وسائل التواصل الاجتماعي توفيرها القدرة على الإحاطة بالغالب من شؤون العالم وشجونه، لكن من أسوأ سيّئاتها اقتراحها مشاهدة ما تجنّبه المرء وبقرار منه. وهذا بالضبط ما حصل مع كاتب هذه الأسطر أمس في ما عنى مقابلة الرئيس السوري بشّار الأسد مع الزميلة “سكاي نيوز” الإماراتية.
الحضور النورانيّ للأسد
في المقابلة التلفزيونية كان الأسد كلّه، من دون استثناء قوّاته الخاصّة واستخباراته وميليشياه ومُعينيه الروس والإيرانيين والحزب، ضدّ الحرب. وعلى عادته القهّارة منذ قمّة بيروت العربية عام 2002 راح يشرح الفارق بين النظريّ والعمليّ. في القمّة آنذاك كان أصغر الحاضرين من ملوك ورؤساء يكبرون والدَه الراحل، لكنّه أصرّ على شرح الصراع العربي ـ الإسرائيلي عائداً بالتاريخ إلى عقود خلت.
أدوات الأسد في اللقاء كانت من النوع الفتّاك: حيناً بسط اليدين اللتين كادتا تلامس وجه الزميل الذي يجري المقابلة. أحياناً يستدعي ابتساماته التي تُظهر بياض أسنانه وجودة لثّته. وفي أحايين أخرى يستحضر “السلام الداخلي” الذي تتمتّع به مريم نور. وعندما يعجز الثلاثي هذا عن إسعافه يستحضر المؤامرة على “حقوق الشعب السوري” الذي صار شتاتاً أكبر من الشتات الفلسطيني زمن النكبة.
من فضائل وسائل التواصل الاجتماعي توفيرها القدرة على الإحاطة بالغالب من شؤون العالم وشجونه، لكن من أسوأ سيّئاتها اقتراحها مشاهدة ما تجنّبه المرء وبقرار منه
حلقة صوفيّة لا سياسية
المقابلة التلفزيونية التي جرت في القصر الرئاسي بدت وكأنّها تحصل في حلقة صوفية، أو في تجمّع لحركة سلمية، لكن ليست سياسية على الإطلاق. كان المُراد من هذا اللقاء قولاً سياسيّاً واضحاً: الشعب السوري خرج في تظاهرات سلمية، فلماذا وقعت الحرب؟
الرئيس السوري كان يوزّع الكلام يميناً ويساراً ويتنقّل في تعريف الدول الحديثة وكأنّه يتحدّث من إحدى الدول الإسكندينافية. في هذه الحالة بدا وكأن لا حاجة من الأصل إلى المقابلة التي طغى عليها سحر ابتسامات الأسد.
الأسد العرّاف
يمكن للمرء أن يغامر ويدعو من يريدون التخفّف من السياسة أن يشاهدوا المقابلة من باب التفكّه على حال ما ادّعاه الأسد الذي كشف تردّي الوسائط السياسية في سوريا كلّها كالأحزاب والنقابات ودور الاقتصاد غير المرئي في صناعة الواقع والوقائع. صار الرجل يمارس الإقناع، في قضايا الحياة والموت، بطريقة العرّافين والعرّافات، لا بفعل فاعل.
صاحب معجم الألفاظ
إذا كنّا قد خرجنا من عصر العقيد الليبي معمّر القذّافي، بالكتاب الأخضر، فأحسب أنّنا لن نخرج من عصر بشّار الأسد بغير “معجم الألفاظ الحيّة”، أو “معجم الألفاظ الخشبية الحيّة”. ومفردة “الحيّة” في الاسمين ليست سوى دليل على ذاك الموت العميم الذي فتك ويفتك بالسوريين من قمّة هرم السلطة حتى أخمص قدميها.
يتّخذ هذا الموت العميم شكلين:
ـ الأوّل هو مفردات ومصطلحات ينبري لها رأس النظام السوري شرحاً وتعريفاً وتقريباً للأذهان، في دلالة على انفصال النظام ورأسه انفصالاً تامّاً عن الحياة السورية اليومية التي يرزح تحت أعبائها شعب كامل.
ـ الثاني هو على هيئة كلمات ومفردات ومصطلحات يقوم الشعب نفسه، خاصةً في السويداء أخيراً، بلفظها وشرحها وتحليلها وتقديمها للعالم، واللغة ورأس النظام أيضاً.
الكلمات في السويداء تعرّي النظام، حامي الأقلّيات ورافع لوائها. الكلمات في السويداء تأتي من الجهة القاتلة، من الجولان، من حدوده ومشارفه، بل من بيئته الحاضنة
سيبويه الشام
الرئيس السوري الذي لا ينفكّ يهرب من الأزمات المتتالية إلى اللغة، شارحاً ومفسّراً الإرهاب والمؤامرة والدولة والنظام والعروبة وغيرها، عثر هذه المرّة، بعد صولته وجولته في المقابلة الإعلامية مع سكاي نيوز قبل نحو أسبوعين، على الشعب السوري ينتظره لينافسه في شرح معاني الكلمات. هل تعرف معنى “بدنا نعيش بكرامة” يا سيادة الرئيس؟ لقد قدّمه أهالي السويداء بأبهى حلّة منذ أيام وربّما حتى انتهاء الحكاية المأساة.
في مقابلته هذه، عرّف الأسد معارضيه أو الذين خرجوا ضدّه منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، فقال هم “مئة ألف ونيّف في كلّ المحافظات السورية، يقابلهم ملايين”. المئة ألف ونيّف صاروا طائفةً، طائفة من أبنائها سلطان الأطرش وسليم حاطوم.
هم ليسوا مئة ألف ونيّفاً. ليسوا عدداً. هم مئة ألف كلمة ونيّف. وقد فات سيادتك تعريفها طوال تلك السنوات. هل سمعتها تتردّد على ألسنة السوريين أبناء سلطان الأطرش وأحفاده؟ “بدنا نعيش”، “بدنا ناكل”، “بدنا ثروات الشعب”… و”بدنا نعيش بكرامة” وغيرها الكثير. عبارات باتت سيّدة الساحات في سوريا من معقل سلطان الأطرش وصولاً إلى معقل النظام نفسه، معقل الشيخ صالح العليّ، وما بينهما من معاقل وديار هيهات تصير أطلالاً.
هنا لا إرهاب ولا دول ولا مؤامرات ولا أحلاف ولا جهات خارجية. هنا ما لم يشرحه الأسد أو يمرّ على ذكره من كلمات ومصطلحات وجذور. هنا قاموس الرئيس لا ينفع. هنا لسان الرئيس أعجمي أو من زمن آخر. الكلمات في السويداء جديدة، طازجة، حيّة وتتّخذ معاني أعمق ودلالات أبعد.
المفردة الوحيدة التي أطلقها الأسد وشرحها في مقابلته مع سكاي نيوز هي المعارضة. قال إنّه يعترف بالمعارضة المصنّعة محلّياً لا المصنّعة خارجياً، أي تلك التي تمتلك قاعدةً شعبيةً وبرنامجاً وطنياً وتمتلك وعياً وطنياً ونيّةً وطنيةً صادقةً.
قال سيبويه الشام كلمته تلك، وخرج من المقابلة. خرج ليلقى معارضةً بالمواصفات التي حدّدها وشرحها وعرّفها. وقف القاموس ضدّه هذه المرّة. ملّه. لفظه إلى كلمات قالها، إلى معارضة وطنية بنيّة صادقة تمتلك قاعدةً شعبيةً وبرنامجاً وطنياً بل إنسانياً، من صناعة وإعداد سلطان باشا الأطرش.
مِن لسانه
من لسانه يؤتى الفتى، قالت العرب. وقالت أيضاً: لسانك حصانك إن صنته صانك. ومن حصانه أوتي الأسد. سقط عن صهوة لسانه، ليس في مقابلة سكاي نيوز، بل قبلها بكثير، قبلها بقاموس كامل، قاموس تملأه الجثث ورائحة الدم لا الحبر والبارود ولا فتات الأغصان الطريّة.
إقرأ أيضاً: مجزرة الغوطة: من يحاسب الأسد.. وأوباما؟
لم يتعلّم بشّار الأسد من عبارة “أشباه الرجال” التي دمّر بها سوريا والمنطقة. لم يصُن لسانه ولا نظامه. بل على النقيض تماماً صبّ جامّ صموده ومقاومته على اللغة، أي الكلمات التي من لحم ودم، ونزل فيها شرحاً وتحليلاً وتدقيقاً حتى انتصبت أمامه هامات لا تطأطئ ولا تنحني.
الكلمات في السويداء ليست كالكلمات. الكلمات في السويداء تلبس حطّةً وعقالاً وسروالاً. وتعتمر في درعا الحكمة قبعةً وتمشي بزندَين. الكلمات في السويداء تعرّي النظام، حامي الأقلّيات ورافع لوائها. الكلمات في السويداء تأتي من الجهة القاتلة، من الجولان، من حدوده ومشارفه، بل من بيئته الحاضنة.
سيادة الرئيس، بعد تعريف “الإرهاب”، هل تدرك معنى أن تهبّ رياح سلطان باشا الأطرش من القريا؟