ما يزال مشروع التقارب الإيراني السعودي قيد المراقبة وخفض سقف التوقّعات، والطرفان حريصان على فصل العلاقات الثنائية عن القضايا الخلافية واستكشاف أماكن تعاون من دون إغضاب الحلفاء.
بدت العلاقات وكأنّها دخلت غرفة العناية الفائقة في الأسابيع القليلة الماضية نتيجة التراشق الإعلامي الذي تعبّر عنه الوسائل الإعلامية التي تدور في فلك الطرفين. كما أنّ التوقّعات بحصول تغيير كبير في المنطقة، وتحديداً في ساحات المواجهة، لم تكن في محلّها، على الرغم من تبريد بعض الجبهات، وهو ما ولّد شعوراً بأنّ الاتفاق الذي وُقّع في الصين لن يُكتب له النجاح الموعود.
لكنّ زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان للمملكة العربية السعودية ولقاءه وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان، يشيران إلى أنّ الطرفين حريصان على المضيّ باستعادة العلاقات الثنائية واستكمال اتفاق الصين، لكن بوتيرة تنسجم مع تعقيدات المنطقة والضغوطات الإقليمية والدولية.
ما يزال مشروع التقارب الإيراني السعودي قيد المراقبة وخفض سقف التوقّعات، والطرفان حريصان على فصل العلاقات الثنائية عن القضايا الخلافية واستكشاف أماكن تعاون من دون إغضاب الحلفاء
ما يزال الموقف الأميركي من الاتفاق يشوبه الغموض، فواشنطن من حيث المبدأ ليست ضدّ التهدئة بين إيران والسعودية، إنّما على العكس، فهي حثّت القيادة السعودية في مرحلة ما بعد الاتفاق النووي مع إيران على الحوار مع طهران. كما أنّ واشنطن ما تزال منخرطة في مفاوضات مع إيران حول ملفّها النووي. وأخيراً أبرمت صفقة الأرصدة الموقوفة مقابل المساجين الأميركيين في إيران. إلّا أنّ واشنطن لا تريد تقارباً على حساب مصالحها، كما أنّها ترفض تنسيقاً بين الرياض وطهران في بعض المجالات، ومنها النفط، قد تستفيد منه روسيا والصين، خصما الولايات المتحدة اللدودان.
الضغوط الأميركيّة… والاندفاعة السعوديّة
ليس خافياً أنّ الضغوطات الأميركية أدّت إلى تخفيف الاندفاع السعودي والخليجي نحو التطبيع مع نظام الأسد. وهو ما يشير بوضوح إلى انتقائية واشنطن في مقاربتها للاتفاق السعودي الإيراني. إذ هي تفضّل معالجة الملفّات الساخنة كلٌّ على حدة، وغير معنيّة بأيّ تفاهمات سعودية إيرانية مسبقة:
– في اليمن واشنطن ترحّب بالتهدئة.
– على عكس سوريا والوضع في العراق حيث ما تزال واشنطن على موقفها المتشدّد للحدّ من توسّع النفوذ الإيراني والتطبيع مع نظام بشار.
– أمّا في ما يخصّ لبنان فإنّ الموقف الأميركي يتناغم إلى حدّ كبير مع الموقف السعودي. وواضح أنّ الطرفين تركا لقطر وفرنسا متابعة يوميّات الأزمة اللبنانية واكتفيا بدور المشاهد والمراقب عن بعد إلى أن تحين اللحظة المناسبة.
اللافت أنّ المسؤولين في الرياض وطهران ابتعدا عن توجيه أيّ انتقاد والتزما بروحية اتفاق الصين واكتفيا بتوجيه رسائل محدّدة عبر وسائلهما الإعلامية.
هذا الحرص على الحفاظ على الاتفاق نابع من يقين الطرفين بوجود مصلحة مشتركة للتعايش وعدم المواجهة.
المملكة العربية، التي تبدي حرصاً كبيراً على أمنها الداخلي والإقليمي، تريد أن تعتمد على إمكاناتها الذاتية، سواء من خلال تسلّحها النوعي أو نسج شبكة أمان دبلوماسية إقليمية تقيها من أيّ تحدّيات مستقبلية. كما أنّ القيادة السعودية ليست بصدد حصر حمايتها الأمنيّة بالخيار الأميركي فتكون بذلك عرضة للتغييرات السياسية في واشنطن والظروف الدولية، خصوصاً بعد خيبات الأمل التي شعرت بها السعودية نتيجة تلكّؤ أو تخلّي واشنطن عن حلفائها في وقت الحاجة. هذا لا يعني التخلّي عن السعي إلى تعزيز التعاون الأمني مع واشنطن الذي يكون مكلفاً في معظم الأحيان، لكن بشروط وقواعد مختلفة.
الاتفاق المحتمل بين المملكة وإسرائيل، وفق التقارير، سيكون امتحاناً لطهران، إذا ما استطاعت مستقبلاً أن تحافظ على علاقة طيّبة مع دول الجوار وعدم السماح للخلافات بأن تتحوّل إلى مواجهات وتصرّفات عدائية
نزيف إيران الماليّ… وهواجسها
الاعتبارات الإيرانية لضرورة التقارب مع المملكة متعدّدة ومختلفة. إيران أمام تحدّيات داهمة. إضافة إلى الأزمة الاقتصادية الدائمة نتيجة العقوبات الغربية وسوء الإدارة الاقتصادية وتمويل مشاريع “ثورية” خارج الحدود، فإنّ وراثة المرشد الأعلى لنظام الملالي تؤثّر إلى حدّ كبير في اتّخاذ القرارات وتتطلّب استقراراً داخلياً.
الإنفاق الإيراني على تصدير الثورة وتعزيز النفوذ في المنطقة كانت وما تزال كلفته كبيرة وغير منتجة اقتصادياً لطهران التي تواجه تعاظم الحركة المعارضة داخلياً. ومن العناصر الضاغطة على طهران والتي تدفعها إلى التقارب مع الرياض، رغبة طهران في ترجمة المكاسب التي حقّقتها في الإقليم. إلا أنّ الحفاظ عليها سيفاقم النزيف المالي. وتعتقد طهران أنّ الوقت أصبح مناسباً الآن لترجمتها إلى مكاسب ثابتة سياسياً ومادّياً.
من هواجس طهران المستجدّة: الانسحاب الأميركي من أفغانستان الذي مثّل إلى حدّ ما نهاية حقبة حروب ما بعد 11 أيلول ومواجهة “الإرهاب السلفي الجهادي” وهزيمة تنظيم القاعدة. وكان من نتائج ذلك أن أعاد التهديد الأفغاني وحركة طالبان إلى دائرة القلق الأمنيّ الإيراني. وطهران بحاجة إلى تعاون مع السعودية التي تمتلك خبرة واسعة في مواجهة الخطر الناجم من الحركات المتشدّدة.
إذا حافظ الطرفان على رغبتهما بتعزيز العلاقات الثنائية، يكونان بذلك قد انتقلا إلى مرحلة من النضوج السياسي وتغليب المصلحة الوطنية على الأيديولوجيات والأحقاد التاريخية. إيران لديها نموذج العلاقات الوثيقة مع الهند، وباكستان وتركيا تربطهما علاقات مع إسرائيل وواشنطن، ولم تحُل الخلافات دون تعزيز العلاقات الثنائية، إذ يمكن التعايش مع هذه الخلافات وإيجاد قواسم مشتركة للمضيّ بالعلاقات قدماً.
إقرأ أيضاً: هل تحيي المفاوضات السعوديّة الأميركية حلّ الدولتين؟
الاتفاق المحتمل بين المملكة وإسرائيل، وفق التقارير، سيكون امتحاناً لطهران، إذا ما استطاعت مستقبلاً أن تحافظ على علاقة طيّبة مع دول الجوار وعدم السماح للخلافات بأن تتحوّل إلى مواجهات وتصرّفات عدائية.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mouafac@