زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان للسعودية ولقاؤه غير المجدوَل مسبقاً مع وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، مؤشّر إلى ذوبان طبقة إضافية من الجليد الذي يكسو العلاقات بين البلدين.
الدفء النامي بين الدولتين، منذ توقيع اتفاق المصالحة بينهما برعاية صينية في آذار الفائت، وليد حزمة معقّدة من المصالح والمخاوف والطموحات والحسابات المحلّية لكلّ من طهران والرياض، لكن أيضاً وليد الرمال المتحرّكة على الساحة الدولية الأوسع.
بالنسبة لإيران، يبعث التقارب مع السعودية إشارة استراتيجية إلى الغرب، حول صمود إيران في مواجهة العزلة المفروضة عليها لا سيما من واشنطن. مشاهد المصافحات المتتالية في الصين وإيران والسعودية، رسائل مصوغة بعناية، ومصمّمة لتحدّي رواية ضعف إيران على المسرح العالمي. على نحو متّصل، يفتح هذا التقارب فرصاً محتملة لتحقيق مكاسب مالية واقتصادية لإيران عبر السعودية، تشكّل هي الأخرى تحدّياً لمنطق العقوبات والقيود الاقتصادية الأميركية خاصّة والغربية عامّة، وتسهم في تخفيف وطأة الانهيار الاقتصادي الإيراني وانعكاساته على هيبة وشرعية النظام.
زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان للسعودية ولقاؤه غير المجدوَل مسبقاً مع وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، مؤشّر إلى ذوبان طبقة إضافية من الجليد الذي يكسو العلاقات بين البلدين
إيران: “اتفاق الصين” خلخل النظام
أمّا على مستوى الحسابات الداخلية الإيرانية الأعمق، فإنّ هذا التحوُّل، أقلّه في صورة السياسة الخارجية الإيرانية قبل مضمونها الذي لم تتّضح ملامحه الفعليّة بعد، يكشف عن طبيعة التوازنات الأيديولوجية الراهنة داخل النظام. زيارة عبد اللهيان للمملكة، والزيارة المرتقبة للرئيس إبراهيم رئيسي عندما تتم، تصبّان في مصلحة تيار داخل الدائرة المقرّبة من المرشد الأعلى، لطالما دافع عن إعادة تقديم أولوية العداء لإسرائيل، على أيّ اشتباك سياسي أو غير سياسي مع المملكة أو بقيّة دول الجوار. وإن تأكّدنا في الشهور المقبلة من غلبة هذا التيار، فتكون هذه الغلبة من أولى إشارات التصدّع داخل النظام الإيراني التي أنتجها التقارب الخليجي الإسرائيلي أكان بصيغة الاتفاق الإبراهيمي الذي قادته الإمارات أم بصيغة التفاوض الإسرائيلي السعودي الجاري برعاية أميركية. أصحاب نظرية المصالحة مع الرياض، انطلقوا من أنّ فائض الاستفزاز الإيراني للخليج، عبر الميليشيات المذهبية وخطابات قادتها التي طاولت تهديد النظام السعودي، مدفوعة بتصريحات مماثلة لمسؤولين إيرانيين، هو ما أنتج واقع التقارب الخليجي مع إسرائيل، وفتح الباب لتل أبيب لأن تكون عند عتبة نظام الملالي انطلاقاً من البحرين! غلبة أصحاب هذه النظرية أدّت إلى استعجال المرشد لتحقيق هذه المصالحة عبر اللجوء إلى الصين لدفع مفاوضات العراق وعُمان المتعثّرة، وهو دور أبدت السعودية حياله كلّ ترحيب.
السعودية: الشرق الأوسط ليس أميركياً
أمّا بالنسبة للسعودية فلا تغيب، عن عقل الأمير محمد بن سلمان، الحسابات الأميركية المتعلّقة بمعادلة المصالحة. من منظور الرياض، فإنّ المصالحة مع طهران تبعث برسالة لواشنطن، تُظهر استقلال القرار السياسي والاستراتيجي للمملكة في ضوء ضعف الثقة بالضمانات الأمنيّة والعسكرية والسياسية الأميركية. حقيقة الأمر أنّ السعودية تدفع ثمن اتّهامها بأنّها جزء من الهندسة الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، وهو اتّهام ليس بعيداً عن الحقيقة. لكنّ السعودية تقول، إنّها قادرة على تغيير تموضعها، من خلال مدّ الجسور الاستراتيجية مع الصين، وإطفاء نار الاشتباك مع إيران، ولو اصطدم ذلك بمصالح واشنطن، في حال لم تبدِ الولايات المتحدة التزاماً حاسماً بمسؤوليّتها حيال التحالف السعودي الأميركي.
إلى ذلك يهمّ الرياض أن ينجح تطبيق الاتفاق الذي جرى برعاية صينية، بغية التأكيد على قدرات الشريك الصيني وتثبيت واقع أنّ الشرق الأوسط ليس ساحة حصرية لأميركا تستطيع فيها واشنطن فرض شروطها من دون أخذ مصالح شركائها بعين الاعتبار. تنوُّع الرعاة الدوليين لملفّات الشرق الأوسط، مصلحة استراتيجية للسعودية لمواجهة استسهال أميركا التهاون في التزاماتها تجاه حلفائها.
أمّا على المستوى الداخلي، فتتوافق المصالحة مع إيران، مع مشروع “رؤية المملكة 2030″، الذي يهدف إلى تحوّل اقتصادي طموح يأخذ البلاد إلى ما بعد عصر النفط. تتطلّع المملكة بلا شكّ إلى توظيف المصالحة لإنتاج استقرار إقليمي يحمي أولويّاتها الوطنية، عبر خفض حدّة النزاعات وتعزيز المناخات الصديقة للاستثمار، بالإضافة إلى إقفال مزاريب الإنفاق على الأمن والعسكر.
المحادثات الراهنة تُعتبر حتى إشعار آخر انعكاساً لحسابات السياسة الواقعية والتأقلم مع متغيّرات استراتيجية، أكثر من كونها خطوة حقيقية نحو المصالحة الدائمة بين الدولتين تنهض على أساس سياسي واضح
أسباب هشاشة اتفاق الصين
بيد أنّ تحت هذا المستوى من الاعتبارات السعودية والإيرانية الدافعة للاتفاق، مستوى آخر من التعقيدات الاستراتيجية والأيديولوجية في حسابات كلّ من الدولتين.
الهشاشة الكامنة في الاتفاق التي لا يمكن تجاهلها، هي غياب أيّ أساس سياسي مستدام له. وربّما أصدق وصف لما حصل، ما قاله وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان من أنّ محادثات الرياض فتحت أبواب التعاون على قاعدة “الأمن والتنمية للجميع في المنطقة”. كأنّ هذا الاختصار جاء ليعبّر عن حدود التزام إيران بأنّه التزام بأمن السعودية المباشر فقط في مقابل استثمارات سعودية في إيران من دون التطرّق الجادّ إلى الأدوار الإيرانية الأخرى في الإقليم، التي لا تملك المملكة الآن ترف الدخول في تفاصيل صياغة تسويات حولها.
إلى ذلك لا ينبغي إهمال الرهان الإيراني على توظيف التفاهم مع السعودية بغية تحقيق نتائج بعيدة المدى على مستوى رؤية إيران الاستراتيجية للشرق الأوسط.
الاتفاق من وجهة نظر طهران فرصة لتوسيع الهوّة بين واشنطن وأحد أبرز حلفائها في الشرق الأوسط، وتعزيز نظام إقليمي مناهض للنفوذ الغربي ومتقاطع مع الصين وروسيا. إنّه رهان طموح لتقويض نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط من خلال الاستفادة من الأخطاء الأميركية والهواجس السعودية. وهو ما تواجهه الرياض بتعزيز التقاطعات السياسية الممكنة مع واشنطن إن كان من خلال استضافة المملكة لاجتماع يبحث خطة سلام لأوكرانيا، أو محاولات التفاهم مع إدارة بايدن على خطّة حلّ سياسي مشتركة للأزمة في السودان، أو من خلال الانفتاح السعودي على مسعى أميركي للسلام بين المملكة وإسرائيل.
“فرملة الاتفاق الإبراهيمي”
من الواضح أنّ النقطة الأخيرة ليست غائبة عن حسابات إيران، التي تطمح، من خلال التفاهم مع السعودية، إلى فرملة الاتفاق الإبراهيمي وتجميد إمكانيات توسّعه، ومحاولات إجهاض المسار السعودي الإسرائيلي إن أمكن.
إقرأ أيضاً: أوكرانيا: فرصة للسعودية والإمارات والمغرب
وعليه فإنّ ما نحن بإزائه لا يقلّ عن حراك جيوسياسي معقّد ينطوي، في الكثير من مفاصله، على نقيض ما يوحي به على السطح. وربّما هذا ما يفسّر التوقّعات المتواضعة للاتفاق التي عبّر عنها الإعلام السعودي، على الرغم من الاحتفالية المشهدية. فقد صيغت التقارير عن زيارة عبداللهيان للسعودية بحذر كبير ركّز على “العلاقات الثنائية” واستكشاف “الفرص المستقبلية للتعاون”، مع الحرص على عدم المبالغة في أيّ نتائج نهائية أو بعيدة المدى.
والحال، فإنّ المحادثات الراهنة تُعتبر حتى إشعار آخر انعكاساً لحسابات السياسة الواقعية والتأقلم مع متغيّرات استراتيجية، أكثر من كونها خطوة حقيقية نحو المصالحة الدائمة بين الدولتين تنهض على أساس سياسي واضح.
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@