فرنسا: زعيمة في لُبنان وعقيمة في إفريقيا

مدة القراءة 6 د


ليسَ إنجازاً أن تُصبحَ دولةٌ أجنبيّة زعيمةً في لُبنان. فهذا باتَ من الموروث اللُبنانيّ حيث تَنافَس ساسةُ بلاد الأرز منذ الاستقلال حتّى اليوم، على استجلاب كلّ من هبَّ ودبَّ، ليُصبحَ، مكانَهم، سيّدَ القرارات المصيريّة في المناصب، والدساتير، والأعراف، والحروب. لكنّ ما يُثيرُه انقلابُ النيجر هذه الأيام من أسئلةٍ عن انكفاءِ وهشاشة الدور الفرنسيّ في إفريقيا مقابلَ أدوارٍ دوليّةٍ أخرى، يؤكّد أنّ جُزءاً من مصالح فرنسا العُليا باتَ مُرتبطاً بلُبنان، وبالصفقات مع دولِ الخليج، ورُبّما لاحقاً بسورية.
حين جاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لُبنان، مُغدِقاً الوعود على الناس بالتغيير، وموبّخاً معظم الجماعة السياسية إلّا ما ندر، ثمّ جاء بعدَه مبعوثوه يكرّرون الوعود والتوبيخ (من دون نتيجة طبعاً حتّى الساعة)، كان في الوقت عينِه، يمدح قادةَ الخليج من الإمارات التي نجح في عام 2021 في بيعها 80 طائرة رافال و12 مروحيّة بنحو 18 مليار دولار، إلى السعوديّة حيث تمّ توقيع صفقة، أيضاً في العام نفسه، لبيع 26 مروحيّة لشركة سعوديّة، وعقود تجاريّة أخرى، بينها ما يتعلّق بمياه الشرب في الرياض، واعِداً نواب فرنسا بأنّ هذه الأسلحة والمعدّات لن تُستخدم في حرب اليمن.
الأمر الفرنسي الوحيد الذي تحقّق حتّى اليوم في لُبنان، هو مباشرة شركة “توتال إنيرجي” الفرنسيّة بالتنقيب في البلوك 9 للغاز، واستمرار مبعوثي فرنسا بالتنقيب السياسيّ مع الحزب أوّلاً لدعم المُرشّح سليمان فرنجيّة، والآن للبحث عن مخارج، وذلك بعدما تبيّن أنَّ الرياض وبعض الدول الأخرى أصعب وأصلب ممّا توقّع الرئيس الفرنسي الذي كتبَ في حينه تغريدة مُنعشة وواعدة تقول: “قطعنا مع المملكة العربية السعودية التزامات تجاه لبنان: العمل معاً، ودعم الإصلاحات، وتمكين البلد من الخروج من الأزمة والحفاظ على سيادته”. لم نرَ شيئاً حتّى الآن غير استمرار الوعود.

الأمر الفرنسي الوحيد الذي تحقّق حتّى اليوم في لُبنان، هو مباشرة شركة “توتال إنيرجي” الفرنسيّة بالتنقيب في البلوك 9 للغاز، واستمرار مبعوثي فرنسا بالتنقيب السياسيّ مع الحزب أوّلاً لدعم المُرشّح سليمان فرنجيّة

ضرورة فرنسية…بعد أفريقيا
هذا التمدّد الفرنسي في الشرق الأوسط والخليج صار ضرورة قصوى لفرنسا ودورها ومصالحها ومصانعها وشركاتها. فقد تراجع نصيبُ فرنسا من التجارة مع إفريقيا من 10% إلى 5% في العقدين الأخيرين, بينما نجد مثلاً أنّ نسبة تجارة الصين مع القارّة السمراء ارتفعت إلى 11% بنحو 282 مليار دولار في العام الماضي. وليس مفاجئاً أن نرى أيضاً التمدّد الإماراتيّ الكبير في إفريقيا، فلا يتردّد الباحث الفرنسي وأستاذ العلوم السياسيّة سيباستيان بوسوا في القول إنّ “إفريقيا ستصبح خزّان الثروات الاستراتيجيّة للمشاريع العالميّة الضخمة للإمارات” بعدما تضاعف التبادل التجاريّ والاستثمارات عشرات المرّات.
لم تعد إفريقيا الحديقة الخلفيّة لفرنسا، وما عادت باريس شرطة إفريقيا، وذلك لأسباب عديدة، يختصرُها خبير الجيوبوليتيك الفرنسي الشهير باسكال بونيفاس بالتالي:
– “أوّلاً تعاظم دور القارّة على المستوى الدولي وجذب دولاً منافسة عديدة لفرنسا، مثل الصين واليابان والولايات المتحدة الأميركية وروسيا وتركيا والإمارات العربيّة المتحدة.
– وثانياً فَقْدُ فرنسا لدورها الطليعيّ داخلَ أوروبا.
– وثالثاً القيود على التأشيرات والهجرة والمقرونة بخطاباتٍ سياسيّة داخليّة فرنسيّة مناهضة للإسلام والهجرة.
– ورابعاً أنّ فرنسا التي تُعطي دروساً في الديمقراطية في دولٍ، لا تفعل ذلك في دولٍ أخرى، فهي مثلاً تقبل سُلطةً عسكريّة في تشاد، وتدينها في مالي”.
قد نُضيف إلى ذلك أنّ ثمّة أدواراً في الخفاء تقتصّ من فرنسا في إفريقيا، وبينها مثلاً النشاط الدبلوماسيّ الجزائريّ الذي كان له دورٌ كبيرٌ في مالي، وعلى الأرجح في غيرها، وجاء بعدما حرمت الجزائر أيضاً باريس من عقودٍ كبيرةٍ كانت تتمتّع بها تاريخيّاً في الجزائر، ومنحتها لدولٍ منافسة.
ما يقوله بونيفاس عن تناقض دروس الديمقراطيّة التي تُعطيها فرنسا اليوم، ينطبق تماماً على لُبنان. فحين جاء إيمانويل ماكرون ومبعوثوه يُربِّتون على أكتاف المنتفضين اللُبنانيّين في خريف عام 2019، أعطوا أملاً وهميّاً للناس بأنّ الربيع سيحلّ مكان الخريف. لكن نجد اليوم أنّ الدبلوماسيّة الفرنسيّة تجهد للتنسيق مع الجماعة السياسيّة نفسها، بعدما اكتشفت أنّ أيّ مبادرةٍ لها ستسقط لو عارضت هذه الجماعة. فلتبقَ الديمقراطيّة إذاً شعاراً رنّاناً وإناءً فارغاً، ليس بسبب تقصير فرنسا فحسب، وإنّما لأنَّ معظم الشعب اللُبناني لم يتحرّك حتّى وهو يُقتل ويُجوَّع مرّاتٍ عديدة.

بن سلمان… ومصالح دولته
كذلك الأمر بالنسبة لإيران: فحين زارت وزيرة الخارجيّة الفرنسيّة والدبلوماسيّة العريقة كاترين كولونا السعودية في شباط الماضي، هدّدت في حديثها إلى صحيفة “الشرق الأوسط” بـ”أنّنا عازمون على التصدّي لإيران، ذلك أنّ قلقَنا حيالَها لا ينحصر في الموضوع النوويّ، بل أيضاً بتهديدها محيطها الإقليمي وزعزعة استقراره”.
لا شكّ في أنّ كولونا تضربُ كفّاً بكفّ حاليّاً وهي ترى وزير الخارجيّة الإيراني بضيافةِ وليّ العهد الأمير محمّد بن سلمان، الذي يواصل اجتياز كلّ الخطوط الحمر من طهران حتّى بكين خدمةً لمصالح دولته وشعبه. وربّما فعلت الأمر نفسَه حين سمعت قبل أيام بصفقة تبادل الأسرى بين أميركا وإيران.
مع الإحراج الفرنسيّ الكبير حاليّاً في النيجر، يُطرح في الأوساط الفرنسيّة والغربيّة والإفريقيّة عددٌ من الأسئلة المُقلقة فعلاً بشأن العجز الفرنسي عن لعبِ أدوارٍ كبيرةٍ في إفريقيا كما كان الشأنُ في عهد الرئيس شارل ديغول أو حتّى الرئيس جاك شيراك. ورُبّما صار الشباب الإفريقي، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، أكثرَ وعياً وعلماً بالفساد الذي رافق الدبلوماسية الفرنسية في القارّة السمراء. إذ غضّت باريس تاريخيّاً الطَرْف عن قادةٍ بقوا في السُلطة 40 عاماً وتعاملت معهم برفق على الرغم من روائح الفساد والقتل.

إقرأ أيضاً: لبنان: دمُ الأبرياء على مذبح الصفقات

لا شيءَ سيُعوِّض الانكفاءَ الفرنسيَّ الاضطراريَّ في إفريقيا، والمقرون بارتفاع مستوى الاستياء الداخليّ بسب الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة، إلّا المزيد من الحضور في الخليج والشرق الأوسط. ولا شكَّ في أنّ لُبنان يُشكّل بهذا المعنى مفتاحاً مُهمّاً للدور والاقتصاد الفرنسيَّين، ليس على أرضه فقط وإنّما كبوّابة إلى المحيط. فهل هذا أحد أسباب اللطف الفرنسي مع الحزب؟
لنتخيّل ولو للحظة أن يقول ماكرون في السعوديّة أو الإمارات أو الجزائر ما قاله في لُبنان؟ هل كان سيبقى لحظة واحدةً؟
الأكيد لا.
لكن في لُبنان موروث الذلّ عند معظم ساسة هذا البلد يقبل بكلّ شيء مقابل الحفاظ على المصالح والمواقع.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: samykleyb@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…