توماس فريدمان يحذّر من “لَبنَنة” إسرائيل

مدة القراءة 8 د


لأنّه عاش “كابوس بيروت في أواخر السبعينيات، منذ أن انهار النظام اللبناني الهشّ القائم على التعايش بين الطوائف، وأصبح شعار “لا غالب ولا مغلوب” هو الشعار السائد… يخشى الكاتب والمحلّل السياسي البارز توماس فريدمان المعروف بتأييده الشديد لإسرائيل من “كابوس مماثل لها”، أي أنّه يخشى من “لبننة” إسرائيل، فيتخوّف من أنّ إصرار حكومة بنيامين نتانياهو على السيطرة على السلطة القضائية سيغرق إسرائيل بأزمة قضائية ويزيد التعصّب والتحزّب اللذين يهدّدان بانهيار العقد الاجتماعي الأساسي الذي سمح لإسرائيل بالبقاء موحّدة على مدار الـ 75 عاماً الماضية، تحت شعار “عِش ودَع غيرك يعِش”.

هنا ترجمة حرفيّة لمقالة فريدمان الأسبوعية في صحيفة “نيويورك تايمز”: 

“في 12 أيلول، ستنظر المحكمة العليا الإسرائيلية في شرعية تولّي رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو السلطة القضائية. رفض نتانياهو مراراً الالتزام بقرار معاكس، فإذا حكمت المحكمة ضدّ ائتلافه، فستغرق إسرائيل في أزمة قضائية حقيقية، وسيتعيّن على قادة الجيش والموساد والشاباك والشرطة أن يقرّروا لمن هم موالون: لتحالف سياسي منخرط في انقلاب قضائي أو لمحكمة عليا تحافظ على استقلالها.

للبنان وإسرائيل سمتان مشتركتان كبيرتان: هما بلدان صغيران جغرافياً ومتنوّعان بشكل لا يصدّق من حيث عدد السكّان ومن الناحية الدينية والعرقية والسياسية واللغوية والتعليمية

لكن حتى لو قضت المحكمة العليا بأنّها عاجزة عن الحفاظ على سلطتها، فإنّ إسرائيل ستظلّ في أزمة لأنّ نتانياهو وائتلافه اليميني المتطرّف من اليهود المتعصّبين واليهود الأرثوذكس قد انتهكوا بالفعل العقد الاجتماعي الأساسي الذي سمح لإسرائيل بالبقاء موحّدة على مدار الـ 75 عاماً الماضية، تحت شعار “عِش ودع غيرك يعِش”.

أعرف هذا المبدأ جيّداً. لقد عشت في بلدين من الشرق الأوسط من أواخر السبعينيات إلى أواخر الثمانينيات، لبنان وإسرائيل. وقد حافظا على استقرارهما لسنوات من خلال احترام هذا المبدأ إلى أن توقّفا عن ذلك.

للبنان وإسرائيل سمتان مشتركتان كبيرتان: هما بلدان صغيران جغرافياً ومتنوّعان بشكل لا يصدّق من حيث عدد السكّان ومن الناحية الدينية والعرقية والسياسية واللغوية والتعليمية.

عندما يكون بلدك الديمقراطي بالغ الصغر والتنوّع، فهناك طريقة واحدة فقط للحفاظ على الاستقرار: أن تحترم جميع الجهات والأطراف الفاعلة مبدأ “عش ودع غيرك يعِش” أو “لا غالب ولا مغلوب”، كما يصف اللبنانيون وضعهم كلّما انتهك فصيل منهم هذا المبدأ، وأغرق البلاد في حرب أهلية ثمّ اضطرّ إلى استعادة التوازن بين الطوائف. على الجميع الالتزام بحدود معيّنة لا يتجاوزونها.

دور “حزب” نتانياهو في انهيار إسرائيل

على مدى العقدين الماضيين، قوّضت ميليشيا الحزب الشيعية الموالية لإيران هذا المبدأ. واستخدمت تفوّقها في الأسلحة والمقاتلين، ودعم إيران لها، لفرض سلطتها على جميع الأحزاب والطوائف اللبنانية الأخرى.

بدلاً من مبدأ “لا غالب ولا مغلوب”، فرض الحزب المبدأ المرتبط غالباً بالديكتاتوريين الأفارقة: “حان دورنا لنأكل – It’s Our Turn to Eat”، وهو ما يعني أنّ “الديمقراطية إلى الجحيم، حان دورنا للحصول على أكثر من نصيبنا المستحقّ من موارد الدولة، والعمل بعيداً عن أيّ سلطة مستقلّة” (مثل النظام القضائي في إسرائيل).

على الرغم من الاختلافات العديدة بين لبنان وإسرائيل، فإنّ ائتلاف نتانياهو هو “حزب الله” الخاصّ به، وقد قرّر أنّ دوره ليكون هو “من يأكل”، على الرغم من فوزه في الانتخابات الماضية بأغلبية 30 ألف صوت فقط من أصل 4 ملايين و700 ألف صوت. لذلك انتهك هذا الائتلاف مبدأ “عش ودع غيرك يعِش”، وبدأ على الفور بتحويل مبالغ غير مسبوقة إلى مدارس دينية متطرّفة، من دون إلزامها بتدريس الرياضيات أو العلوم أو اللغة الإنكليزية أو التربية المدنية الديمقراطية، وعيّن وزراء لديهم سجلّات جنائية وصبّ موارد الحكومة في توسيع المستوطنات اليهودية في الضفّة الغربية المحتلّة مطيحاً بسلام اتفاقية أوسلو. وجرى كلّ ذلك من خلال محاولة تحييد قدرة المحكمة العليا على إيقافه. هذا النوع من الاستيلاء على الموارد والسلطة غير مسبوق في السياسة الإسرائيلية، وهو أكثر إثارة للسخط لأنّه يتمّ جزئياً من أحزاب إسرائيلية متطرّفة يدفع أعضاؤها أقلّ قدر من الضرائب، وهم الأقلّ احتمالاً للخدمة في الجيش.

على مدى العقدين الماضيين، قوّضت ميليشيا الحزب الشيعية الموالية لإيران هذا المبدأ. واستخدمت تفوّقها في الأسلحة والمقاتلين، ودعم إيران لها، لفرض سلطتها على جميع الأحزاب والطوائف اللبنانية الأخرى

حتى اليوم، كان الجميع مع استثناءات قليلة يعرف حدوده: كان العلمانيون يعرفون إلى أيّ مدى يمكنهم الضغط على الأرثوذكس لفتح المطاعم يوم السبت. وكان مستوطنو الضفّة الغربية يكرهون اتفاقات أوسلو، لكنّهم لم يحاولوا أبداً تفكيك السلطة الفلسطينية التي تحكم أجزاء من الضفّة الغربية. حتى المحكمة العليا أصبحت في السنوات الأخيرة أكثر توازناً أيديولوجيّاً بين المحافظين والليبراليين، على الرغم من تصريحات نتانياهو المضلّلة.

انتهاك “التوازن”

بانتهاك توازن “عش ودع غيرك يعِش” بالقوّة المحضة وباستغلال ميزة برلمانية سياسية عابرة، انتهك نتانياهو وائتلافه شيئاً أكثر أهميّة من القانون. لقد انتهكوا العُرف غير المكتوب الذي يبقي على تماسك إسرائيل. ومن الصعب أن نتبيّن كيف سيبقى البلد بعد هذا مثلما كان. فإذا أعلنت المحكمة العليا أنّها لا تملك سلطة إيقاف انقلاب نتانياهو القضائي أو إذا رفض نتانياهو الامتثال لقرار ضدّ تولّيه السلطة، فإنّ النظام الإسرائيلي، الذي تصدّع اليوم بالفعل بسبب رفض العديد من جنود الاحتياط في الجيش والقوات الجوّية خدمة حكومة باتوا يعتبرونها ديكتاتورية وغير ديمقراطية، قد يخرج عن السيطرة تماماً.

يصف يوهانان بليسنر، رئيس المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، الوضع في مقال له على موقع المنظمة بالقول إنّ “إجراء التعديل الدستوري تمّ على أسس حزبية ضيّقة. لقد تمّ تجاوز الخطّ الأحمر…. لأنّ هذا الانقلاب من قبل السلطة التنفيذية تمّ في مواجهة أضخم وأطول تظاهرات في تاريخ البلاد، وضدّ إرادة أغلبية السكّان وعلى الرغم من التحذيرات الشديدة التي وجّهها خبراء في الأمن والقانون والاقتصاد من حجم التهديد الذي يتعرّض له ملايين الإسرائيليين”.

أضاف في تحليل له أصداء حقيقية على الديمقراطية الأميركية أيضاً: “اعتباراً من تلك اللحظة، فإنّ كلّ مواطن إسرائيلي سيتوجّه إلى صناديق الاقتراع، سيفعل ذلك بوعي مرعب بأنّ هزيمته قد تكون ثمن أسلوبه في الحياة، وسيدلي المتديّن بصوته خوفاً من أن تقوّض حكومة علمانية الشخصية اليهودية للدولة، وستصوّت امرأة علمانية وهي ترتعش من تداعيات انتصار اليمين على حقوقها…. وستصبح حقوق 1.6 مليون مواطن عربي في إسرائيل، كانت المحكمة العليا تمثّل حامية أساسية لهم، تحت رحمة الأغلبية اليهودية تماماً. ينبغي ألّا يحدث هذا في بلد متنوّع.. يجب ألّا تصبح الانتخابات حلبة منافسة يحصل الفائز فيها على كلّ شيء ويخاطر الخاسر بخسارة كلّ شيء. إنّها ليست ديمقراطية: إنّها وصفة للحرب الأهلية”.

إقرأ أيضاً: “التطبيع” السعوديّ بأقلام يهوديّة وأميركية: مستحيل

الكاتب الإسرائيلي آري شافيت لا يخشى أن تتحوّل إسرائيل إلى “دكتاتورية انتخابية، تشبه المجر أو بولندا أو روسيا، ذلك أنّ التراث السياسي اليهودي لا يمكن أن يتسامح مع سلطة الحكم المطلق ولأنّ اليمين المتطرّف في إسرائيل لا يملك القوة الكافية لفرض إرادته على الليبراليين”، بل يرى أنّ الخطر الحقيقي هو أن تقع إسرائيل في الفوضى وتتفكّك: “الشبح الذي يلوح في الأفق هو شبح لبنان جارنا الشمالي الذي عانى ويعاني من تمزّق كبير عندما انهار النظام الدقيق القائم ما بين طوائفه. الآن، في إسرائيل، انهارت التسوية التاريخية التي سمحت لمجتمعاتها المتنوّعة للغاية بالعيش معاً بسلام، على الرغم من سيطرة اليمين على السلطة السياسية لمعظم السنوات الـ20 الماضية وسيطرة الوسط واليسار على المحاكم والإعلام والجامعات. اليوم، وكما في أيّام المعبدين الأوّل والثاني، يمزّقنا التعصّب والتحزّب ويهدّدان بتدمير الأمّة الرائعة التي بنيناها هنا. الكابوس الذي يوقظني في الصباح الباكر ليس بودابست أو وارسو بل بيروت”.

ولمّا كنت شخصيّاً قد عشت كابوس بيروت في أواخر السبعينيات، يمكنني أن أؤكّد أنّ هذا الاحتمال حقيقي للغاية بالنسبة لإسرائيل اليوم. فمن يكسر ما لديه، يخسره، ولن يمكنه استعادته.

* توماس ل. فريدمان كاتب عمود في صفحة الشؤون الخارجية. التحق بالجريدة عام 1981، وفاز بثلاث جوائز بوليتسر.

*   كتاب It’s Our Turn to eat يروي كيف ولماذا انزلقت كينيا إلى العنف السياسي والخصومات القبلية، والابتزاز المنتشر، والغضب المتصاعد في إفريقيا.

لقراءة النصّ الأصلي اضغط هنا

مواضيع ذات صلة

فريدريك هوف: خطوات ترسم مستقبل سوريا

حّدد الدبلوماسي والمبعوث الأميركي السابق إلى سوريا السفير فريدريك هوف عدّة خطوات تستطيع تركيا، بمساعدة واشنطن، إقناع رئيس هيئة تحرير الشام، أبي محمد الجولاني، باتّخاذها…

الرواية الإسرائيلية لتوقيت تفجير “البيجرز”

هل كان يمكن لتفجير “البيجرز” لو حدث عام 2023 انهاء الحرب في وقت أبكر؟ سؤال طرحته صحيفة “جيروزاليم بوست” التي كشفت أنّه كان يمكن لتفجير البيجرو…

فريدمان لفريق ترامب: ما حدث في سوريا لن يبقى في سوريا

تشكّل سوريا، في رأي الكاتب والمحلّل السياسي الأميركي توماس فريدمان، نموذجاً مصغّراً لمنطقة الشرق الأوسط بأكمله، وحجر الزاوية فيها. وبالتالي ستكون لانهيارها تأثيرات في كلّ…

ألكسندر دوغين: إسقاط الأسد فخّ نصبه بايدن لترامب

يزعم ألكسندر دوغين الباحث السياسي وعالم الفلسفة الروسي، الموصوف بأنّه “عقل بوتين”، أنّ سوريا كانت الحلقة الأضعف في خطّة أوسع نطاقاً لتقويض روسيا، وأنّ “سقوط…