اقتراح للمنصوري: هكذا “تنظّف” لبنان ومصرفه

مدة القراءة 9 د


لم يُحدِث تقرير التدقيق الجنائي في “مصرف لبنان” وقعَ الفضيحة، على الرغم من فداحة التجاوزات التي وثّقتها “ألفاريز أند مارسال”. ربّما لأنّ جلّ تلك التجاوزات معروف ومتداول منذ سنوات، بل إنّ التحقيقات القضائية الأوروبية كشفت ما هو أكثر منها بالأرقام والمستندات.

ومع ذلك، فإنّ للتقرير ثلاثة مفاعيل عمليّة:

1- كشف تقرير “ألفاريز أند مارسال” عن المركز المالي الحقيقي لمصرف لبنان، بعد سنوات من الإخفاء الممنهج للبيانات عن الرأي العامّ، بل والتضليل والتغيير فيها. ولا بدّ أن يكون لذلك مفاعيل على صعيد سعي الحكومة إلى الاقتراض من البنك المركزي المفلس.

2- توثيق الانتهاكات الماليّة والقانونية التي كانت مدار تسريبات وتحليلات. ومن حسن الحظّ أنّ كثيراً منها موضع تحقيق في أوروبا ودول أخرى، وإلّا لما كان بالإمكان التعويل على القضاء اللبناني للاستفادة من التقرير.

3- وضع اليد على الاهتراء في منظومة اتّخاذ القرار داخل مصرف لبنان. وبالتالي، بات بإمكان القيادة الجديدة في منظومة اتخاذ القرار، بعيداً عن السلطات الاستنسابية، اتخاذ إجراءات لتحسين الحوكمة المطلقة للحاكم، التي هي أصل الفساد وبابه المشرّع.

لم يُحدِث تقرير التدقيق الجنائي في “مصرف لبنان” وقعَ الفضيحة، على الرغم من فداحة التجاوزات التي وثّقتها “ألفاريز أند مارسال”

فجوة مصرف لبنان

في الشقّ الأوّل: من الخدمات الجليلة التي قدّمها تقرير التدقيق الجنائي الأوّلي أنّه كشف حجم فجوة العملات الأجنبية في مصرف لبنان. ومن المخزي للدولة أن تنتظر تدقيقاً جنائياً للكشف عن بيانات عاديّة جدّاً يفرض القانون إصدارها ونشرها بشكل منتظم، مثل البيانات المفصّلة للمركز المالي (balance sheet) وبيانات الأرباح والخسائر (P&L) وبيانات التدفّقات المالية، والتغيّرات في حقوق الملكية. وكلّها يُفترض بحسب قانون النقد والتسليف أن يحصل عليها مفوّض الحكومة لدى مصرف لبنان، وأن يمارس دوره الرقابي عليها. فيما واقع الحال أنّ الحاكم السابق رياض سلامة أبقاها سنوات طويلة سرّاً من أسراره الخاصّة.

بعد نشر تقرير التدقيق الجنائي الأوّلي، باتت هناك حقيقة لا يمكن لأحد أن يتجاوزها، تتمثّل في عدم وجود احتياطي “صافٍ” لدى مصرف لبنان، وإن تكن متوقّعة ومقدّرة سابقاً لدى المختصّين. وهذه حقيقة لا بدّ أن تؤخذ بالاعتبار في النقاش الدائر حول تشريع اقتراض الدولة لـ 1.2 مليار دولار من البنك المركزي لتمويل عجز الموازنة.

ما كشفه تقرير “ألفاريز أند مارسال” أنّ صافي الأصول بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان تحوّل من فائض بقيمة 7.2 مليارات دولار في 2015، إلى عجز بنحو 50.7 مليار دولار في نهاية 2020. ولا شكّ أنّ الرقم بات أسوأ في منتصف عام 2023.

التلاعب بالاحتياطيّ

أمّا أرقام “الاحتياطيات الأجنبية” التي يعلنها مصرف لبنان، وآخرها 9.2 مليارات دولار في نهاية تموز 2023، (باستثناء محفظة الأوراق المالية)، فليست ملكاً له، بل تقابلها مطلوبات هائلة بالعملة الأجنبية، أكبرها وأهمّها إيداعات من البنوك، أي من أموال المودعين، بنحو 76 مليار دولار. ولو أنّ مصرف لبنان يمتلك هذه الأموال ويسدّد استحقاقاتها لما كانت هناك مشكلة في القطاع المصرفي.

يكشف تقرير “ألفاريز أند مارسال” حقائق عن كيفية التلاعب بالبيانات. فخلافاً للأرقام المنفوخة للاحتياطيات التي دأب سلامة على إعلانها كحصيلة “إيجابية” للهندسات المالية، تُظهر بيانات التدقيق الجنائي أنّ الأصول الأجنبية المحتفَظ بها بعملات أجنبية تراجعت إلى النصف تقريباً بين عامَيْ 2014 و2020، من 36.6 إلى 18.4 مليار دولار. ويُقصد بهذه الأصول ما يحتفظ به مصرف لبنان من ودائع لدى البنوك المراسلة، وما يحمله من سندات أجنبية وشهادات إيداع بالدولار أو اليورو أو غيرها من العملات الرئيسية.

أتى التضليل عبر تكوين محفظة من الأصول المحلّية المقوّمة بالعملة الأجنبية. تلك المحفظة قفزت من 12.7 مليار دولار في 2015 إلى 21.2 مليار دولار في 2020. ضمن هذه المحفظة القروض التي تسحبها وزارة المالية على المكشوف (overdraft)، وبالتالي فإنّها ليست دولارات موجودة فعلاً لدى مصرف لبنان، ولا سبيل إلى استيفائها إلّا إذا اقترضت الحكومة من الخارج لسدادها. ومن ضمنها أيضاً سندات الخزينة اللبنانية الدولارية (اليوروبوندز)، التي تضخّمت قيمتها أضعافاً مضاعفة نتيجة للهندسات المالية، فوصلت في الذروة إلى 5.8 مليارات دولار في 2019، قبل أن تتراجع نتيجة سداد استحقاقات نيابةً عن الدولة أواخر ذلك العام.

بعد أربع سنوات من عمر الأزمة، لا بدّ من نقاش في كيفية “فطم” الدولة عن الأكل من أموال المودعين، والبحث في استعادتها المقدرة على تمويل نفسها، بدلاً من التلهّي بالشكل القانوني للاستيلاء على السيولة الباقية في مصرف مركزي مفلس

“شهادات” الاستحواذ على أموال المودعين

في المقابل، كان سلامة حريصاً على عدم الكشف عن حجم شهادات إيداع البنوك لديه بالدولار. وقد كشف تقرير “ألفاريز” أنّ حجم تلك الإيداعات كان في حدود 76 مليار دولار عام 2020، كما سبقت الإشارة. شهادات الإيداعات هذه هي الأداة التي استحوذ من خلالها مصرف لبنان على أموال المودعين، بتكلفة (فوائد) مرتفعة جداً. واضطرّ في مقابل ذلك إلى تضخيم الكتلة النقدية بالليرة، لدفع العوائد المغرية للبنوك، وتسجيل أرباح من إصدار النقد (seigniorage). وعندما وقعت الواقعة وأصبحت الدولة عاجزة عن تمويل إنفاقها كان على مصرف لبنان أن يختار بين أن يستخدم الأموال التي استحوذ عليها عبر “الهندسات المالية”، لإعادة هيكلة مطلوباته والحفاظ على شيء من ملاءة القطاع المصرفي، أو أن يقدّمها إلى السياسيين لتغطية فشلهم في تمويل إنفاق الدولة.

ما حدث أنّ مصرف لبنان المفلس اختار منح السيولة الباقية لديه إلى الحكومة، من دون أيّ سند قانوني، ومن دون مراعاة الأصول في إجراءات الإقراض، فاتّسعت فجوة الأصول الأجنبية لديه، وتفاقم تخلّفه عن سداد التزامات واجبة عليه تجاه المودعين. وقد مارس في الوقت ذاته عملية مشبوهة لتصفية الأصول المصرفية السليمة، المتمثّلة بالقروض المضمونة، فقضى على أيّ أمل واقعي بإعادة هيكلة القطاع المصرفي والإبقاء على شيء من ملاءته المتآكلة.

الاقتراض من المفلس

يدور النقاش حالياً حول الشكل القانوني (أو المخالف للقانون) الذي تستحوذ من خلاله الدولة على السيولة الباقية لدى مصرف لبنان، كما لو أنّ الدولة مفلسة ومصرف لبنان مليء ماليّاً، فيما الواقع يشير إلى أنّ الوضع المالي للدولة أفضل بكثير من حال مصرف لبنان. فانهيار الليرة بنحو 98% خلّص الدولة من عبء ديون بالعملة المحلية يناهز 60 مليار دولار. والتوقّف عن السداد خلّصها من فوائد ديون بنحو ثمانية مليارات دولار. وفوق ذلك حقّقت وفراً من انهيار قيمة رواتب القطاع العام. أمّا مصرف لبنان، فهو المفلس الأكبر في البلد، وهو بيت الأزمة الحقيقي، ولا يمكن التفكير في أيّ تصوّر للخروج من الأزمة من دون الإجابة على السؤال المركزي: ماذا نفعل بديون هذه المؤسّسة المهترئة؟

مشكلة الحكومة الحالية أنّها جعلت هذا السؤال المركزي ثانوياً، وأجابت عليه “بشخطة قلم” فيها كثير من الاستهتار والاستسهال والارتجال، مفادها أنّها تريد “شطب معظم التزامات مصرف لبنان تجاه البنوك”، وأنّ الدولة لن تلتزم بأكثر من سندات بقيمة 2.5 مليار دولار لإعادة هيكلة بنكها المركزي، فيما قانون النقد والتسليف يلزمها بتحمّل خسائره بالكامل. بكلام آخر، لا تترك الدولة وسيلة للاستيلاء على أموال مصرف لبنان، فيما تتحلّل من أيّ التزام لإعادة هيكلته وتغطية عجزه وخسائره.

بعد أربع سنوات من عمر الأزمة، لا بدّ من نقاش في كيفية “فطم” الدولة عن الأكل من أموال المودعين، والبحث في استعادتها المقدرة على تمويل نفسها، بدلاً من التلهّي بالشكل القانوني للاستيلاء على السيولة الباقية في مصرف مركزي مفلس.

المسار القضائيّ

في ما عدا ذلك، يبقى سؤال كبير عن التثمير القضائي لتقرير التدقيق الجنائي، على الرغم من القيود التي أحاطت بظروف إعداده. فمصرف لبنان، تحت قيادة سلامة، نجح في تقييد عمل “ألفاريز أند مارسال” إلى حدّ بعيد. إذ منعها من الوصول المباشر إلى البيانات في الأنظمة، ومنعها من تنفيذ عملها داخل المصرف، ورفض إجراء مقابلات مباشرة مع الموظّفين، طالباً توجيه أسئلة مكتوبة إلى عدد محدود منهم، واستغرق الردّ عليها ثلاثة أشهر ونصف شهر، فيما كان مطلوباً من الشركة إنجاز عملها خلال 12 أسبوعاً فقط. والأهمّ من ذلك أنّ البيانات المقدّمة عن العمولات المشبوهة لشركة “فوري” حُذفت منها معلومات ضرورية للتحقيق، تتعلّق بتفاصيل بيانات المستفيدين من التحويلات والخانة التي تتضمّن شرحاً لطبيعة التحويلات، بذريعة “السرّية المصرفية”.

لذلك أتت خلاصات التقرير مقيّدة في الشقّ الجنائي، ولا شكّ أنّها تتطلّب قراراً سياسياً لكشف المزيد من الحقائق. والتعويل هناك لا يمكن إلّا أن يكون على أجهزة القضاء الأوروبية والكندية، وربّما الأميركية.

تنظيف المؤسّسة

يبقى أخيراً جانب للمستقبل هو برسم القيادة الحالية في مصرف لبنان. فقد كشف التقرير عن صورة مخزية لمؤسّسة مهترئة من الداخل، تفتقر إلى أدنى إجراءات الحوكمة وإدارة المخاطر، مؤسّسة ينفرد الحاكم الفرد بالقرارات فيها، ويخضع له المجلس المركزي بالكامل، إلى درجة أنّ اجتماعاته لا تتجاوز الشكل الإجرائي لتصديق جدول الأعمال المعدّ سلفاً من المحافظ، كما تُظهر محاضر الاجتماعات حتى عام 2019. ولم يكن هذا الصمت يستثني المدير العامّ السابق لوزارة المالية، وهو عضو حكماً في المجلس المركزي، على الرغم من توجّهاته العونية المعلنة في ذلك الحين. وهذا يؤكّد أنّ حاكمية سلامة لم تكن تواجه تحدّياً جدّياً، إلا في حدود الطلبات المتبادلة بينه وبين الأحزاب الحاكمة.

إقرأ أيضاً: “إرباك الحاكميّة” يرفع الدولار نهاية آب.. إلّا إذا؟

يمكن للحاكم الجديد أن يحقّق مكاسب سريعة على مستوى تنظيف المؤسّسة، تبدأ بنشر كلّ البيانات المالية المدقّقة على الموقع الإلكتروني، متضمّنة ملاحظات المدقّقين الخارجيين “ديلويت” و”إرنست إند يونغ”، والانكباب على إنجاز التدقيق في البيانات غير المدقّقة. ثمّ لا بدّ من إنشاء إدارة مخاطر مستقلّة، وآلية للتدقيق الداخلي (internal audit)، للحدّ من استغلال النفوذ في مختلف مستويات اتّخاذ القرار.

إن كان للقيادة الجديدة في مصرف لبنان من بصمة تضيفها فهي إرساء قواعد حوكمة “نظيفة” لاتّخاذ القرار، تجعل من الصعب على أيّ حاكم بأمره الانفراد بتوجيه المنافع إلى المحاسيب والشركاء. وتلك مهمّة يمكن السير بها من دون انتظار إمضاء من أحزاب السلطة.

مواضيع ذات صلة

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…

لبنان بين “وصاية” صندوق النّقد وتسهيلات “البريكس” (1/2)

أثارت الأزمة الاقتصادية المعقّدة في لبنان مناقشات حول البدائل المحتملة لصندوق النقد الدولي، حيث اقترح البعض أن تتحوّل البلاد إلى “البريكس” كمصدر لدعم التعافي. وبالنظر…

لبنان على القائمة الرمادية: إبحار المصارف في حالة عدم اليقين(2/2)

بعدما عرضت الحلقة الأولى من التقرير، تداعيات إدراج لبنان على القائمة الرمادية، تتناول الحلقة الثانية الإجراءات التفصيلية التي ستترتب على هذه الخطوة، سواء في ما…

إسرائيل تعرّي النّفط الإيرانيّ ولا تشعله

يحتاج الاستنتاج السريع بأنّ إسرائيل حيّدت منشآت النفط الإيرانية من ضربتها، إلى الكثير من التدقيق. واقع الأمر أنّها أعطت الأميركيين ما يريدونه فيما وجّهت إلى…